الحوار والهوية المصرية
إحدى القضايا التى ستطرح فى الحوار الوطنى قضية الهوية المصرية، ولا شك أن هذه القضية من القضايا المحورية التى حين نتوافق حولها فيكون ذلك سبيلًا إلى التوحد الوطنى الذى نحتاجه دائمًا.
والهوية هى مجمل السمات التى تميز شخصًا عن غيره أو مجموعة عن غيرها. كما توجد أنواع للهوية مثل العرق واللون والقومية والقبيلة ومكان الولادة والمواطنة والمعتقدات، فيقال هوية عرقية أو دينية أو قومية. أما الهوية المصرية فمؤشراتها هى البُعد التاريخى والإلمام بتاريخ الوطن والعلاقة بين الماضى والحاضر والمستقبل، وتقدير الدور الحضارى والإنسانى للوطن محليًا وإقليميًا وعالميًا. وهنا يصبح التواصل الحضارى المتمثل فى الجذور التاريخية للهوية المصرية هو المحصلة لكل ذلك. وهذا يعنى أن الشخصية الحضارية المصرية بجيناتها ومكوناتها وهويتها كانت محصلة حقبات تاريخية تفاعلت مكانيًا وزمانيًا وإنسانيًا فأنتجت تلك الهوية المميزة والمتميزة. فكانت تلك الحقبات التاريخية: اليونانية.. الرومانية.. القبطية.. الإسلامية، هذا غير الانتماءات الجغرافية «إفريقية وبحر متوسطية وعربية». إذن ما هى تلك الإشكالية التى تبرز على السطح كل فترة زمنية وتثير خلافًا فكريًا بين المختلفين؟
الإشكالية هى التمترس والتوقف عند حقبة بذاتها بهدف إلغاء باقى الحقبات. وهذا التمترس، للأسف الشديد، يعتمد على الأرضية الدينية والطائفية أكثر من اعتماده على حقائق تاريخية أو أركولوجية.
ويتلخص الخلاف فيمن يتوقفون عند المرحلة المصرية القديمة على اعتبار أن المرحلة القبطية هى الامتداد الطبيعى لها لغةً وجنسًا، وبالطبع هذا يعنى رفض الحقبة الإسلامية! أما الطرف الآخر فإنه يعتبر أن تاريخ مصر القديم هو تاريخ كفار ويجب إسقاطه بالإلغاء والابتداء بدخول العرب مصر!!! وهذا رفض بالطبع لما يتصورونه تاريخ غير المسلمين!!
هنا نقول للفريق الأول إن المصرية لا ولن تقتصر على المسيحيين دون غيرهم، فالتاريخ يقول إن المصريين كانوا يؤمنون بالديانة المصرية القديمة ثم تحوّلوا إلى المسيحية ثم كان هناك مَن تحوّل من المسيحية إلى الإسلام، وهذا يعنى أنه فى كل الأحوال الدينية لم تسقط مصريتهم، خاصة أن العرب القادمين لم يمثل عددهم القيمة الكبيرة لعدد المصريين حينها لكى نعتبر أن كل مسلم ليس مصريًا بل وافدًا!!
أما الطرف الثانى الرافض للتاريخ المصرى بمجمله عدا الحقبة الإسلامية، فنقول له إن التاريخ بشكل عام وعلمى لا يعتمد على الانتقاء وحسب الأهواء. أما عن فكرة أن التاريخ المصرى القديم كان كافرًا، أى أن المصريين كانوا كفارًا، فنقول لهم: وهل العرب قبل الإسلام فى الجزيرة العربية لم يكونوا كفارًا؟ ناهيك عن أن المصريين أول مَن ابتدعوا الدين والتدين وكانوا فجرًا للضمير الإنسانى.
هنا لا نستطيع إسقاط الثقافات الخاصة «القبطية، الإسلامية، النوبية، البدوية»، فهذه الثقافات هى إثراء للثقافة المصرية العامة والجامعة والمميزة تاريخيًا للهوية المصرية الجامعة. هنا، وما العمل؟ لا شك أن المشكلة الأساسية فى تلك القضية هى الفكر الدينى الذى يرفض الآخر على كل المستويات، خاصة المستوى الدينى. كما أن قبول الآخر لا يعتمد فقط على الفكر الدينى رغم أهميته، ولكن لا بد من تكامل الأدوار بين التعليمى والثقافى والإعلامى، على أن تكون هناك إرادة حقيقية لمواجهة هذا التفتت الهوياتى الخطير. أما الدور الرئيسى الآخر والمكمل فهو تحقيق المواطنة الحقيقية لكل المصريين حسب المادة ٥٣ من الدستور التى تساوى بين المصريين ولا تميز بينهم لأى سبب من الأسباب الواردة فى المادة. وهذا لا يتحقق عمليًا دون تشكيل مفوضية عدم التمييز لأى سبب، خاصة سبب الانتماء الدينى الذى يتم وضعه كمعوق غير صحيح وغير حقيقى لكل مواطنة حقيقية على أرض الواقع.
مصر فى ظروف صعبة وفى تحديات خطيرة تحتاج للتوحد المصرى حفاظًا على الوطن، وهو غير النظام السياسى، وهو الباقى للجميع، أيًا كانت الخلافات.
الهوية المصرية الجامعة هى حائط الصد ضد الغازين والمستعمرين الذين تعددت هوياتهم على مدار التاريخ، واستطاعت هذه الهوية صهرهم وقهرهم، وظلت الهوية المصرية التى هى أهم ما نملك من القوى الناعمة.. حفظ الله مصر وشعبها العظيم.