هزيمة مزدوجة عبدالحليم قنديل
فى أى حرب تراعى فيها أبسط األخالقيات والقوانين المرعية ، تكون المستشفيات بعيدة عن أى قتال ، لكن جيش االحتالل فى حربه الهمجية الدائرة ، يحارب المستشفيات كأنها قالع مسلحة ، ويعتبر اقتحامه الوحشى لمبانى مجمع "الشفاء" انتصارا حربيا عظيما )!( ، ويفخر بإطالق الرصاص على المرضى والرضع واألطباء والنازحين المحتمين بحوائط أكبر مستشفيات مدينة "غزة" ، وعمره أطول من عمر كيان االحتالل نفسه ، فقد أقيم "مجمع الشفاء" عام 1946 ، أى فى ظل االنتداب واالحتالل البريطانى ، الذى سلم فلسطين لعصابات اإلرهاب والقتل الصهيونى . وربما ال يكون من وجه للعجب وال للتعجب ، ال من سلوك جيش االحتالل البربرى ، وال من سلوك "البيت األبيض" المنافق المتورط ، الذى أيد رئيسه اقتحام مستشفى "الشفاء" ، وبدعوى احتمال وجود أنفاق ومراكز قيادة لحركة "حماس" فى المستشفى أو تحت مبانيه ، وهى فرية رخيصة ، رددها كيان االحتالل من سنوات ، استنادا لما يسميه مصادر موثوقة )!( ، وبدت الغباوة ظاهرة فى أكمل معانيها ، مع إعادة تدوير الزعم نفسه قبل أسابيع ، وكأن حركة "حماس" ، وجناحها العسكرى الذى أذل جيش االحتالل ، وداس رءوس قادته ومخابراته وأجهزته األمنية ، كأن حركة "حماس" كانت تغفل عن االدعاءات "اإلسرائيلية" ، وتظل محتفظة بمراكز قيادة مفترضة فى مستشفى "الشفاء" ، أو فى أى مستشفى آخر ، وتنتظر لسنوات ساعة اقتحامها من جيش االحتالل ، وتسلم مراكزها طواعية لجيش االحتالل ، وال تنقل مراكز قيادتها المزعومة لمكان آخر )!( ، وقد طلبت حركة "حماس" مبكرا تحقيقا دوليا أو حتى أمريكيا فى المزاعم ، وتحدت "تل أبيب" ومعها "واشنطن" ، أن تكشف للناس حقيقة وجود أنفاق ومراكز قيادة مزعومة ، ولم تستجب "واشنطن" بالطبع ، برغم إدعاءاتها العريضة الكاذبة عن حماية المدنيين والمرضى وحقوق اإلنسان ، وكلها أكاذيب سقطت فى امتحان فلسطين وعذاب "غزة" وأهلها ، تماما كما سقطت وتسقط قبلها وبعدها أكاذيب ال تحصى ، لعل أشهرها كما يتذكر الكل ، زعم امتالك نظام صدام حسين ألسلحة دمار شامل ، الذى كلفوا الجنرال "كولين باول" وزير خارجية أمريكا األسبق ، أن يذيعه من فوق منبر األمم المتحدة وكان أداؤه ركيكا ، وقدم صورا لشاحنات نقل عادية ، قال بأن مخابرات بالده "اللوذعية" ، تؤكد أنها مخازن ألسلحة كيماوية وجرثومية محظورة ، وبعد أن تحقق الهدف بغزو العراق وتحطيم دولته ، عاد نفس أبطال العرض المسرحى الكذوب ، وأكدوا أنهم لم يجدوا شيئا مما أوهموا العالم بوجوده ، وكانت فضيحة ال تنسى ، هى ذات الفضيحة التى يرتكبها جيش االحتالل اإلسرائيلى اليوم ، مع إذاعة مشاهد مفبركة من "بدروم" فى مستشفى "الرنتيسى" لألطفال ، تتحدث عن ستارة معلقة على جدار كأنها سر حربى )!( ، وعن لوحة كهرباء باعتبارها باب الجحيم )!( ، وعن فتحة تهوية باعتبارها مدخال ألنفاق "حماس" تحت األرض ، وهو ما يكشف مجددا عن بؤس تفكير جيش االحتالل ، وعن التواطؤ الميكانيكى من "البيت األبيض" ، الذى ردد رئيسه كذبة قطع مقاتلى المقاومة لرقاب أطفال "إسرائيليين" ، ثم قال الحقا ، أنه لم يطلع على أى شريط "فيديو" يؤكد حدوث الواقعة ، وال سواها من مزاعم اغتصاب النساء فى هجوم 7 أكتوبر ، ثم لم يجرؤ الرئيس "جو بايدن" على االعتذار عن أخطائه الفادحة ، وال راجع نفسه أبدا ، وهو يرى بأم عينيه قتل جيش االحتالل آلالف مؤلفة من الرضع واألطفال والنساء فى "غزة" ، ويلجأ إلى صمت القبور، ومن دون أن يغلق "بالوعة" مزاعمه اإلنسانية األخالقية الكاذبة ، بل عاد إلى العزف "الببغائى " على أنغام األكاذيب "اإلسرائيلية" ، وتصوير المستشفيات الفلسطينية كأنها منشآت حربية ، يدخلها الجيش "اإلسرائيلى" كأنه قهر األعداء وحطم الحصون ، ويلتقط الصور التذكارية على أنقاض المبانى وجثث المدنيين ، أو فى بهو مبنى المجلس التشريعى الفلسطينى فى "غزة" ، وكأنه بذلك حقق هدف الحرب ، ووجه الضربة القاضية لحركة "حماس" ومقاتليها ، الذين يخرجون له من حيث ال يعلم ، ويدمرون آلياته العسكرية بالجملة ، ويقتلون ضباطه وجنوده ونخبته فى غمضة عين ، ويسخرون من ركاكة "الموساد" و"الشاباك" و"المخابرا ت المركزية األمريكية" معا ، وكلها صدعت أدمغتنا بتقارير عن وجود مركز قيادة "حماس" الرئيسى فى نفق تحت مبانى مجمع "الشفاء" ، وأنه ال بد من اقتحامه العتقال "يحيى السنوار" و"أبوعبيدة" و"محمد الضيف" ، واستعادة األسرى "اإلسرائيليين" واألمريكيين المحتجزين مع القادة فى ذات النفق الموهوم ، وفجر يوم االقتحام الموعود ، أعلن جيش االحتالل أنه ينفذ عملية محددة ودقيقة جدا ، ثم تمخض جبل التدبير والتخطيط والتنفيذ فولد فأرا "إسرائيليا" ، إذ لم يجدوا نفقا وال مركز قيادة وال أسرى وال يحزنون ، وكانت هزيمة مزدوجة لتل أبيب وواشنطن ، التى تنصلت من الجريمة كلها بعد فوات األوان وهنا جوهر المأزق الذى يواجه جيش االحتالل فى "غزة" ، فهو يدرك يقينا ، أن ليس بوسعه تعقب وإفناء المقاتلين المقاومين ، الذين ينصبون له كمائن الموت فى كل مكان ، ومن دون أن يعنى توغله البرى فى مدينة "غزة" وجوارها شيئا ، اللهم إال إتاحة الفرص للمقاومة القادمة من األنفاق ، واستدراج جيش االحتالل إلى حتفه من وراء أنقاض المبانى ، وحتى لو افترضنا جدال ، أن جيش االحتالل واصل الغوص فى رمال "غزة" ، وأقدم على إعادة احتاللها كلها إن استطاع ، فسوف يجد مصائد الموت فى انتظاره ، ولن يجرؤ ضباطه وجنوده على القتال وجها لوجه ، ومن المسافة "صفر" القاتلة ، ولن يستطيع ستر خيبته بجرائمه ، وتدميره للبشر والحجر وكل موارد الحياة ، ومهما قتل من المدنيين ، وحتى لو قتل خمسين ألفا ، فلن يصنع له ذلك صورة انتصار قابلة للتصديق ، وكل ما سيحدث ، أن دم الفلسطينيين المراق ، سيكون لهيبا مضافا ، يذكى شعور المقاومة ويعزز جيوشها ، ويضاعف رغبة االنتقام والقصاص العادل من المجرمين ، و"غزة" التى أرسلت "رابين" و"شامير" و"شارون" إلى مزابل التاريخ ، هى "غزة" ذاتها ، التى سترسل "نتنياهو" و"جاالنت" و"جانتس" إلى مكب النفايات نفسه ، و"غزة" الوالدة ألصلب حركات المقاومة ، سوف تلد من عذابها جيوشا جديدة ، وصرخة الجنرال "اسحق رابين" التى أطلقها ذات يوم ، وكان منطوقها "أتمنى أن أصحو من النوم . فأجد غزة غرقت فى البحر" ، ولن تغرق غزة فى البحر أبدا ، ولن يفنى سكانها أو يهاجرون ، وحين تخرج من عذابها اليوم ، ومن مآسى دماء أبنائها التى تسيل كاألنهار ، سوف تخرج منتصرة لروحها العفية التى ال تهمد ، وتعاود دورها التاريخى كقدس أقداس المقاومة الفلسطينية ، وقد أرغمت الجنرال "شارون" على الخروج وتفكيك المستعمرات اليهودية فيها ، وهى قادرة اليوم وغدا على تجديد وعدها البطولى ، وتهزأ بما يدبرونه لها ، فمن قلب مآسى ودمار غزة الرهيب ، يولد اليوم التالى المضئ لفلسطين كلها ، وهو قادم حتما مهما تلكأت المواعيد . والمحصلة فيما جرى ويجرى حتى اليوم ، وقد تعدت حرب "طوفان األقصى" يومها األربعين ، بينما يبدو الفارق ظاهرا بين النصر الحقيقى والنصر الرخيص المفتعل ، فقد يضع الجيش "اإلسرائيلى" علمه هنا أو هناك ، على مبنى أو على مستشفى ، لكن ذلك ال يعنى نصرا عسكريا وال سيطرة حقيقية دائمة لالحتالل ، الذى نفذ ما يفوق األلف مجزرة ضد أهل "غزة" ، وشن عليهم آالف الغارات اليومية الجنونية ، وادعى أنه أغلق المئات من فتحات األنفاق ، لكنه فى حساب السالح وموازينه ، دخل إلى متاهة ودوامة ، لن يعود منها سالما بإذن هللا ، فقد يملك المدافع والطائرات والصواريخ والقطع البحرية ، ويحصل على دعم وإسناد مباشر لحظى من واشنطن وحلف األعداء الغربى ، لكن ذلك كله مهما اجتمع وتساند ، ال يؤهل العدو لنصر حقيقى ، ولن يعالج جروح جيش االحتالل الغائرة ، وقد سقطت هيبته الموهومة صباح السابع من أكتوبر ، وثبت أن الهزيمة قدره الذى ال يرد ، وأن اإلذالل مصيره الباقى ، مهما بلغت عذابات شعب فلسطين فى "غزة" ، التى تحولت إلى فلسطين مصغرة مكثفة مقطرة ، فيها كل آالم الفلسطينيين ومعاناة أجيالهم ، وفيها كل صنوف المحنة الفريدة التى دهستهم عقودا ، لكنها صهرتهم وخلقتهم خلقا جديدا ، يذهل العالم بصالبته الروحية ، وبوالدته لمقاومين من طراز نادر ، ال تهزمهم الريح السموم مهما اشتدت ، وال يضرهم خذالن من خالفهم ، وال ظلم الدنيا مهما اجتمع عليهم ، ويكتبون بدمائهم فصول العودة إلى فلسطين التى حلموا بها ، وشفعوا حلمهم بعملهم المقاوم العبقرى ، الذى يصنع ما تصوره اآلخرون فى باب المستحيالت ، فغزة هى العنقاء والخل الوفى وقبلة الحرية فى صالة األوطان . [email protected]