هدف
الخميس 21 نوفمبر 2024 مـ 12:10 مـ 20 جمادى أول 1446 هـ
موقع هدف
رئيس مجلس الأمناء مجدي صادقرئيس التحرير محمود معروفأمين الصندوق عادل حسين
الواحي: حكم المحكمة الدستورية بالغاء تثبيت الايجار القديم نقطة تحول هامة بن غاطي” تضيء أهرامات مصر مع إطلاق مشروعها الجديد ”سكاي رايز” بقيمة 5 مليار درهم دكتور محمود محيي الدين: تخفيف الانبعاثات بحلول 2050 يستلزم نشر الطاقة المتجددة ورفع كفاءتها وإيجاد حوافز لعملية نزع الكربون بن غاطي سكاي رايز يسجل انطلاقة استثنائية ببيع 50% من وحداته خلال 24 ساعة فقط فرج عبد الظاهر: التعديلات الضريبية الجديدة تشجع على نمو الشركات بن غاطي تطرح مشروع ”بن غاطي سكاي رايز” في الخليج التجاري بقيمة استثمارية 5 مليار درهم حوادث الطرق .. الأسباب والحلول سمر نديم تشعل مواقع التواصل الاجتماعي أثناء تأدية مناسك العمرة بن غاطي للتطوير: تستهدف مضاعفة محفظة مشاريعها العقارية إلى 100 مليار درهم خلال 18 شهرًا الدكتور محمود محيي الدين يوجه الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسي والحكومة بمناسبة انتهاء عمله بصندوق النقد الدولي إبراهيم نداي يشكو الزمالك في الاتحاد الدولي ”فيفا” تعاون بين معهد الاتصالات وزيرو سبلويت في التدريب العملي والوظيفي

عبدالحليم قنديل: أفريقيا تخلع فرنسا

عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل

انقلاب "الجابون" الأخير هو الثامن من نوعه فى غرب أفريقيا منذ 2020 ، وجاء بعد شهر وأيام من انقلاب "النيجر" ، مع اختلاف ظروف البلدين ، فالنيجر عدد سكانها كبير نسبيا (27 مليون نسمة) ، وعظيمة الفقر والشقاء على غنى مواردها الطبيعية من اليورانيوم والذهب ، بينما "الجابون" دولة صغيرة سكانيا (2.3 مليون) ، ومتوسط دخل الفرد فيها يصل إلى تسعة آلاف دولار سنويا ، بسبب امتيازها البترولى كخامس منتج فى أفريقيا ، إضافة لموارد طبيعية أخرى بينها "المنجنيز" والأخشاب ، وما من عدالة ولا مشاركة فيها ، برغم نظامها متعدد الأحزاب متوالى الانتخابات ، وتحكمها عائلة واحدة منذ 56 سنة (!).
والقاسم المشترك الأعظم بين "النيجر" و"الجابون" وسواهما على امتداد الساحل والغرب الأفريقي ، هو الميراث الثقيل للاستعمار الغربى ، والتغول الوحشى الفرنسى بالذات ، فقد ظلت "الجابون" ـ وجوارها ـ تحت احتلال برتغالى ففرنسى لمئات السنين ، وكانت كغيرها من مراكز قنص ونزح العبيد إلى أمريكا عبر المحيط الأطلنطى ، وجرى محو الهويات الثقافية الأصلية لسكانها ، ودفعهم للانتساب قسرا إلى فرنسا ثقافة ولغة ودينا ، فيما ظل 1% لاغير من السكان على الدين الإسلامى ، مع نسب أخرى على دياناتهم الطبيعية الأفريقية ، ومع الاستقلال الإسمى للجابون مع "النيجر" عام 1960 ، حكم "ليون إمبا" ، وإلى أن وقع البلد فى حجر "عائلة بونجو" الموالية تماما لفرنسا ، فقد صعد "عمر بونجو" إلى الرئاسة عام 1967 ، وظل فى الحكم إلى أن توفى عام 2009 ، واتخذ لنفسه اسم "عمر" بدلا من "ألبرت" مع اعتناقه الإسلام عام 1973، لكن ظل على حاله كحاكم "شهريارى" متكبر، يحكم بإرادته المنفردة ، ويترأس ـ للمفارقة ـ حزبا أسماه الحزب "الديمقراطى" ، وعبر حزبه "الملاكى" ، انتقل الحكم عائليا لابنه "على بونجو" ، الذى حكم لمدة 14 سنة ، ولم تعقه حوادث إصابته بجلطة دماغية عام 2018 ، ولا إنقلاب عسكرى أجهضه عام 2019 ، وإلى أن جاء أجله السياسى مع الانقلاب الأخير ، وذهب مع أعضاء حكومته وعائلته وحزبه إلى العزلة ، غداة إعلان فوزه الإنتخابات بفترة رئاسة جديدة ، وهو ما اعتبر صدمة إضافية لفرنسا بعد انقلاب "النيجر" ، وما جرى قبله من انقلابات فى "غينيا" و "مالى" و"بوركينا فاسو" ، وما قد يأتى بعدها من انقلابات ، ومن ذات الجيوش ، التى تدرب فرنسا ضباطها ، وتحتفظ فى بلدانها بقواعد عسكرية برية وجوية ، فلفرنسا قاعدة جوية فى "الجابون" ، يعمل فيها 370 جنديا فرنسيا ، وفى "النيجر" وجود فرنسى أكبر بكثير ، وفى البلدين مع غيرهما ، تحتكر شركات التعدين الفرنسية أغلب الموارد ، وإن كان انقلاب "النيجر" أوقف توريد "اليورانيوم" إلى مفاعلات فرنسا الذرية الكهربية ، فإن شركة التعدين الفرنسية "إيراميت" اختصرت الطريق ، وعلقت فور الانقلاب أعمالها فى "الجابون" ، التى دخلتها "الصين" من سنوات كشريك تجارى واستثمارى رئيسى ، وتشترى من "ليبرفيل" ـ عاصمة الجابون ـ بترولا قيمته 4 مليارات دولار سنويا ، وبما لا يترك للوجود الفرنسى قيمة اقتصادية كبيرة ، فوق أن فرنسا التى تنهب "الجابون" ومعادنها ، تسند هناك "حكم دمى" ، على حد وصف "جان لوك ميلانشون" زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليسارى المعارض ، وقد ولد "ميلانشون" نفسه فى مستعمرات فرنسا الأفريقية ، وتناسل آباؤه وأجداده فى الجزائر والمغرب ، واعترافه بجرائم فرنسا يحرج خصمه الرئيس الفرنسى "ليونيل ماكرون" ، الذى جمعته صور احتضان حميمى مع الرئيس الجابونى المخلوع "عمر بونجو" المتزوج من فرنسية ، وواصل سيرة أبيه فى منح ثروات "الجابون" كهدايا نفيسة لرؤساء فرنسا المتتابعين ، من "جاك شيراك" إلى "ماكرون" ، فلا تزال فرنسا تنظر لمستعمراتها الأفريقية ـ السابقة ـ كبقرات "حلوب" ، وتضئ بيورانيوم "النيجر" ـ وغيرها ـ مدنها وقراها ، وتصنع من معادنها وأحجارها الكريمة "إكسسوارات" بيوت الأزياء ، وتصور "باريس" كأنها عاصمة النور ، بينما قد لا تنافسها مدينة عالمية أخرى فى نشر الظلام والقبح ، فما من مقدرة على إحصاء عدد قتلاها وضحاياها ، وهم بالملايين فى أفريقيا ، ولا تعداد صنوف القهر والاستعباد التى مارستها بتلذذ سادى ، ولا محو هويات السكان الأصلية وتصويرهم كقرود ، علمتهم النطق باللغة الفرنسية ، واعتبرت نفسها مكلفة بإدارة حياتهم البائسة ، واصطفاء حكامهم من الحواشى الفرنسية المفضلة ، وتنصيبهم عبر انقلابات أو بانتخابات ، والتبجح بما تسميه حماية الديمقراطيات الناشئة ، ودعم أمثال "محمد بازوم" و"على بونجو" ، بدعوى أنهم ديمقراطيون ومنتخبون ، بينما الحقيقة الظاهرة للكافة ، أن فرنسا تعتبر الانقلابات الأفريقية الأخيرة تدميرا لنفوذها المفروض ، واطاحة برجالها المختارين ، وما من فرصة على ما يبدو لباريس هذه المرة ، فلا أحد يريدها هناك ، فالنخب الأفريقية الجديدة ، قررت إطلاق النار على البؤس الموروث ، الذى يرونه ممثلا فى فرنسا بالذات ، وهى التى خبروا وقاسوا قهرها ودمويتها واستغلالها واستعلائها لمئات السنين ، وهم لا يحبون من حكامهم ، إلا أن يكرهوا فرنسا ، وأن يطردوا شركاتها وقواعدها من بلادهم ، وعلى نحو ما فعل حكام "النيجر" الجدد ، الذين ألغوا من جانبهم كل الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع "باريس" ، وربما يفعلها حكام "الجابون" الجدد ، فقد كان رد "باريس" على مطالب قادة "النيجر" غليظا فجا منافيا مجافيا لأبسط قواعد العلاقات بين الدول ، ولاتفاقات "فينيا" التى صنعها الغرب نفسه ، فعندما قررت حكومة "نيامى" طرد السفير الفرنسى ، واعتبرته شخصا غير مرغوب به ، كان رد "باريس" ، أنها لن تنفذ القرار ، برغم صدوره عن "سلطة أمر واقع" فى بلد آخر ، يعترف القانون الدولى بحقها المقرر فى اتخاذ ما ترى من إجراءات ، لا يصح فى مواجهتها ، أن ترفضها فرنسا ، ولا أن تفتى بشرعية أو عدم شرعية سلطة "النيجر" ، وقد سبق لباريس نفسها ، أن نفذت بغير تعقيب أوامر انقلابات "مالى" و"بوركينا فاسو" بإجلاء قواعدها العسكرية ، بل ونفذت "الأمم المتحدة" ذاتها أوامر قادة انقلاب "مالى" ، وأجلت قوات حفظ السلام ، فالحقوق السيادية معترف بها لكل صور السلطات ، ونوع الحكم فى أى بلد يقرره شعبه ، لكن فرنسا التى تحس بدنو أجل سيطرتها فى أفريقيا ، تتصرف بتعنت وجلافة تتعارض مع كل المواثيق ، ولا تريد أن تعترف حقا باستقلال مستعمراتها السابقة ، وربما تحلم بإعادة استعمارها وإخضاعها بالقوة العسكرية المباشرة ، ومن دون أن تدرك عجزا آلت إليه قوتها ، وميل حليفتها وقائدتها أمريكا إلى سلوك آخر ، تعترف فيه مؤقتا بسلطات الأمر الواقع ، وعلى أمل تغييرها فيما بعد ، بانقلابات أو بانتخابات ، وتترك واشنطن فرنسا وحيدة فى حالتها العصبية الهائجة ، وشعورها المفزوع بأن الأرض تميد من تحت أقدامها ، بينما أمريكا تريد مرونة فى السياسة ، قد تفيد فى مواجهة النفوذ الصينى المتضخم الزاحف فى أفريقيا ، المتأهب لوراثة الغرب كله فى القارة السوداء ، وبديناميكية اقتصادية هائلة ، ومن دون التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأفريقية ، وخلف الصين بخطوات ، تأتى حليفتها روسيا ، التى تعتمد على صادرات وهبات القمح والسلاح وتمدد جماعات "فاجنر" ، وتقدم وعدا ضمنيا للحالمين بالتخلص من الداء الفرنسى ، بأن تقدم لهم الحماية المطلوبة ، وهو ما يفسر جاذبية علم روسيا الطاغى فى أوساط المتمردين الأفارقة اليوم ، ورفعه فى كل مناسبة احتجاج وسخط على الغرب ، وعلى فرنسا بالذات .
وقد يقول البعض ، أنه على فرنسا أن تراجع تاريخها الأسود ، وأن تعتذر عن فظائعها بحق شعوب أفريقيا بالذات ، لكن فرنسا تكابر ، وتعتبر أنها هى التى خلقت دول أفريقيا "الفرانكوفونية" ، تماما كما تدعى أنها خلقت "الجزائر" ، لكن التاريخ لا يخضع لمشيئة فرنسا ، ولا لعنصريتها الفاقعة ، وكما يقول النص القرآنى "ويمكرون ويمكر الله" ، فإن للتاريخ مكره وسخرياته ومفارقاته ، فقد سعت فرنسا إلى "فرنسة" الجزائر وغرب أفريقيا ، ودار التاريخ دوراته ، وزحف الجزائريون بالهجرة إلى فرنسا ، وفعلت شعوب أفريقية أخرى اضطرارا ، وكادت أمنية "فرنسة الجزائر" ، تنقلب إلى "جزأرة فرنسا" ، وربما "أفرقة فرنسا" فى ديارها ، وعلى نحو ما تعكسه انتفاضات الضواحى فى باريس وغيرها من المدن الفرنسية ، وآخرها ما جرى عقب مقتل الشاب "نائل" ذى الأصول الجزائرية ، وكانت النتيجة ، اشتعال حرائق غضب ، كادت تدمر أمان فرنسا ، إن لم يكن اليوم فغدا ، إنه انتقام التاريخ الماكر ، الذى ترافقه موجات "خلع" تتقيأ فرنسا فى عواصم أفريقيا الفرانكوفونية ، والتى لن يكون انقلاب "الجابون" الأخير نهايتها ، فما زال بطن أفريقيا منتفخا بالغيظ من فرنسا ، التى تعتبر نفسها راعية للحرية ، وهى من أمهات القهر والإذلال والاستعباد .
[email protected]