فى مقام فتحى عبدالسميع
أحب التاريخ.. وتهزمنى الجغرافيا.. وزى كل خلق الله أبحث عن انتصارات صغيرة تزقنى خطوة.. لقدام لورا مش مهم.. المهم أتحرك شوية.. وزى كل خلق الله بتلكك ع الفرح.. وأستغرق كثيرًا فيما كان فى أيامى الأولى هناك فى حتة بعيدة من الصعيد الجوانى.
فى تلك الأرض البعيدة منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين سنة كانت القاهرة حلمًا.. كنا نسميها مصر.. اللى رايح مصر.. اللى جاى من مصر.. الناس فى مصر.. الحب فى مصر.. الأفلام فى مصر.. الأطباء فى مصر.. والسيدة والحسين برضه فى مصر.. تعلقنا فى جلبابها وريحتها وصارت هوسنا وزادنا ورحلتنا التى ننتظرها.. فى ذلك الوقت الذى لم نكن نعرف فيه سوى أن نحلم ونبتهج.. التقيت ذلك الرجل الطيب.. اسمه غريب.. وشِعره طيب مثله.. وخطوته فى شوارع سوهاج تجبرنى أن أمشى سريعًا مثله وكأننى ألهث.. فيما هو يبتسم ابتسامة راضية طيبة مثل اسمه وحكاياته عن عروس البحر.. اسمه حجاج الباى.. كل ما كنت أعرفه عنه أنه شاعر كبير.. عاش فى القاهرة إلى جوار الأبنودى وعبدالرحيم منصور ومجدى نجيب ويحيى الطاهر عبدالله.. حيرتنى ابتسامته.. وطريقته البسيطة فى الكلام.. هو لا يتحدث مثل شعراء التغريبة وأنصار قصيدة النثر لكنه يكتب شعرًا طازجًا مثل ابتسامته.. سألته فى شغف: إزاى يا عم حجاج تسيب مصر وترجع أسوان؟.. الرجل اعتبرنى وأنا ابن السادسة عشرة كبيرًا وحدفنى بكلمتين وبس.. مافيهاش حاجة.. والناس اختيارات.. كنت أنتظر أن يقول لى إنهم قاتلوه وعاركوه وعصروا قلبه الطيب وهزموه.. لكنه كان يحكى كالمنتصرين بحب.. وكأنه لم يعرف المرارة يومًا.. نفس الحوار دار بيننا بعد خمسة أعوام تالية.. هذه المرة كنا فى أسوان.. وكنت قرأت ديوانه حكايات عروس البحر.. سألته وأنا أنتظر أن يفتح باب السرداب هذه المرة ونحن نجلس على مقهى طيب بجوار محطة أسوان.. لكنه لم يزد عما قاله فى المرة السابقة.. ما استريحتش.. ماكنتش لاقى روحى هناك.. أنا روحى هنا.. والشِعر هنا.. أروح هناك ليه؟
الآن أتذكر عم حجاج الذى لم تساطع المدينة غوايته بما يكفى لأن يهجر روحه فى أسوان.. أتذكره وهو يبتسم.. ويؤكد: اللى بيحبنا هيشوفنا فى أى حتة.. ومن أحب فتحى عبدالسميع شافه وهو يجلس على دكته القديمة أمام بيته فى قنا.. وذهب إليه قبل أن تذهب إليه جائزة الدولة لتشكره أن منحها اسمه.
فتحى عبدالسميع.. وأحمد أبوخنيجر.. ودرويش الأسيوطى.. وعلاء خالد.. ومصطفى نصر.. ومحمد حافظ رجب.. نصار عبدالله ومصطفى رجب.. وأبوالعرب أبواليزيد.. وغيرهم عشرات مبدعون كبار قاوموا غواية المدينة.. وعاشوا فى ضل بيوتهم الطيبة البعيدة يكتبون شِعرًا حقيقيًا.. وروايات.. يبحثون وينحتون ويعزفون من أرواحهم سيرة الهامش الذى لم تعرفه مصر.. أو ربما تعرف لكنها ولأسباب لا نعرفها تنكره وتتعالى عليه.
فتحى عبدالسميع والرفاق.. لم يكتبوا شِعرًا فقط.. كتبوا تاريخًا غير ملوث.. هزم الجغرافيا وعنادها.. فاضطرت المدينة الباغية أن تعترف بهم وأن تقر بانتصارهم ولو بعد حين.
هذه الفرحة التى امتلأت بها صفحات مواقع التواصل عقب إعلان فوز الشاعر فتحى عبدالسميع بجائزة التفوق.. يعرفها مَن هم مثلى.. هؤلاء لا يعنيهم أن العم فتحى أنجز سبعة دواوين.. فيما يعيش هناك بعيدًا عن معاركهم الصغيرة هنا فى العاصمة الجدباء.. الفرحون، وبعضهم مثلى، ربما لم يلتقوا الرجل أبدًا.. لكننا نعرف روايته.. سيرته.. تاريخه.. لقد علّم فتحى عبدالسميع والرفاق أجيالًا.. هى الأكثر فرحًا باعتراف العاصمة بأشعاره وأحقيته فى أن يكون سيد المشهد الذى لم يزاحم يومًا ليحصل على صورة فى وسطه.. تلك الابتسامة السمراء الطيبة التى تنط من التايم لاين مصحوبة بفرح حقيقى للأصدقاء.. تؤكد أن حجاج الباى لم يكن يكذب حينما تحدى القطارات المغادرة وارتاح فى حضن عروسه.. عروس النيل.. لم يكن يهذى حينما أخبرنى بأنهم سيأتون يومًا.. لكنه كان يتمنى ألا يأتون كالسياح وألا يصير هو مثل أجداده هناك فى معبد فيلة مجرد أثر يتفرجون عليه.. لا يا عم حجاج.. الذين يذهبون إليك وإلى الأعمام نصار عبدالله وفتحى عبدالسميع.. ليسوا سياحًا.. ولستم فرجة.. لكنكم الأرض والمدينة والكنز الذى نحتاج.. نذهب وتذهب إليكم الجوائز وقبلها محبتنا لأنكم أول النيل وآخره.. لأنكم الزرع والضرع والحياة التى نحلم.. لأنكم أنفسنا التى شردت بلا عودة فى شوارع مصر.