التخدير بـ«الكلمة المقدسة»
وصل «الحسن الصباح» إلى مصر أواخر عهد الخليفة الفاطمى «المستنصر بالله»، فى وقت استعر فيه الخلاف بين ولديه «أحمد المستعلى ونزار» حول الأحق بالولاية من بعده. تبعًا لقواعد نقل الإمامة فى المذهب الإسماعيلى، كان من الطبيعى أن يعهد المستنصر بالخلافة من بعده إلى ولده الأكبر «نزار»، لكن «الأفضل الجمالى» الذى ورث أباه «بدر الجمالى» فى إمارة الجيوش كان له رأى آخر. لم يكن «الأفضل» يرى أحقية لـ«أحمد» فى ولاية عهد أبيه «المستنصر»، لكنها الرغبة فى السيطرة العائلية على مقاليد الحكم فى مصر. فـ«أحمد المستعلى» هو ابن شقيقة «الأفضل الجمالى» التى تزوجها الخليفة المستنصر، وبالتالى أراد «وزير السيف» أن يحرم «نزارًا» من ولاية عهد أبيه، ليمكن لابن شقيقته «أحمد»، كجزء من السعى نحو السيطرة على الدولة ككل. هنالك بدأت فتنة انقسام الفاطميين إلى طائفتين: طائفة «النزارية»، وطائفة «المستعلية». وفى حين تربع «المستعلية» على كرسى الحكم، مستعينين فى ذلك بسيف «الأفضل»، بدأ «النزارية» يعالجون آلامهم وإحساسهم بالظلم، بعد مقتل ولى العهد الذى آمنوا بشرعيته «نزار» وإخوته وأولادهم.
أقام الحسن الصباح فى مصر ثمانية عشر شهرًا، توطدت خلالها علاقته بالفاطميين، واستوعب الكثير من تفاصيل المذهب الإسماعيلى، وبدأ يبشر بالإمامة لنزار من بعد أبيه المستنصر، ولما أحس من «الأفضل الجمالى» انحيازًا لابن أخته أحمد المستعلى بدأ يؤلب المصريين عليه، فكان أن قبض عليه وزج به فى السجن، ولكنه تمكن من الإفلات ليعود إلى بلاد فارس من جديد، بعد رحلة إلى مصر استغرقت عامًا ونصف العام، ومنذ أن آل الحكم الفاطمى إلى الخليفة المستعلى وقُتل «نزار» بسيف «الأفضل»، بدأ الحسن الصباح ينظر إلى نفسه كطرف فى هذه الخصومة، وتلبسه إحساس بأن من واجبه دفع الظلم الذى وقع على نزار وإخوته وأبنائه، بعد أن سمع بأذنيه من المستنصر عهده بالولاية من بعده إلى ولده «نزار».
لم يمكث «المستعلى» كثيرًا فى الحكم، إذ وافته منيته، وولى الأفضل الجمالى الحكم لـ«الآمر بن المستعلى». تفرغ «الآمر» لإعداد رسائل نظرية للرد على مزاعم حسن الصباح فى حق «نزار» فى الخلافة، وقد تضمنت إحدى هذه الرسائل- كما تشير بعض المراجع- وصفًا للنزاريين بـ«الحشيشية». وعلى يد «الحشيشية» كانت نهاية «الآمر»، فى واحدة من أشهر حوادث الاغتيال السياسى التى قام بها أتباع الحسن الصباح.
ليس بمقدور المحلل المنصف أن يذهب إلى أن «الحسن الصباح» تحرك بمبدأ إيمانى بالمذهب الإسماعيلى، وهو ينحاز إلى «نزار» المقتول على يد الأفضل الجمالى، ويخاصم «المستعلية». فالمذهب الإسماعيلى كان قائمًا فى كل الأحوال، لأنه المذهب الأصلى لكل من «النزارية» و«المستعلية». والواضح أن «الصباح» كان لديه طموح للزعامة، وكان فى الوقت نفسه يمتلك القدرات التى تؤهله لذلك، لكنه كان يبحث عن «الفكرة الخلابة» التى يمكن أن يتحلق حولها الأتباع، ووجد ضالته فى «المظلومية» التى وقعت على «نزار» فبادر إلى التقاطها، وجعل منها أساسًا للتأصيل لفكرة العمل الفدائى «الانتحارى بالتعبير الحديث»، واسترخاص حياة الذات وحياة الآخرين فى سبيل الفكرة التى زرعها فى نفوس أتباعه ومريديه، وجعلها أكبر وأعلى من أى نقد عقلى أو نقاش يحدد مستوى جدواها أو وجاهتها، متذرعًا بأن من يوقظ عقله ويجادل فيها هو ببساطة ظالم لا يفهم معنى «المظلومية» التى حاقت بمجموعات معينة، ولا يريد العدل فى الأرض، ويبغى الانتصار للباطل.
لا خلاف على أن شخصية «الحسن الصباح» من أكثر الشخصيات «إلغازًا» فى تاريخ المسلمين، وقد ارتبطت به جملة من الأساطير التى لا يستطيع الباحث المدقق أن يستجلى الصحيح والملفق منها بسهولة. لعل أخطرها ما قيل عن سيطرته على أتباعه داخل قلعة «ألموت» بمخدر الحشيش. وقد ارتبط بالحديث عن قلعة «ألموت» ومخدر «الحشيش» نسيج أسطورى خطير، وهو ما برره «العقاد» بمحاولة المستشرقين فهم وتفسير إقدام المسلمين على التضحية بأرواحهم فى الحروب إلى حد تنفيذ العمليات الانتحارية التى يعلم فاعلها أنه مقتول لا محالة.
والتخدير كفكرة أمر وارد إلى حد كبير فى بناء المجموعات القتالية، سواء اتخذ شكل التخدير بـ«الكلمات المقدسة» ذات التأثير الروحى، أو التخدير بأدوات أخرى مادية. ولو أن الله أمد فى عمر «العقاد» حتى يعاصر العمليات الانتحارية التى يقوم بها بعض أفراد الجماعات الإسلامية فلربما راجع وجهة نظره فى النسج الأسطورى الذى ارتبط بقلعة «ألموت» وجنتها.
دعنى أذكرك على سبيل الاستئناس أن «باكستان» كانت الرافد الأصلى لأفكار الجاهلية والحاكمية والانتفاضات المسلحة فى وجه الحكام، وذلك على يد أبوالأعلى المودودى، ومن المعروف أن دولة «أفغانستان»- المجاورة لباكستان- من أكثر الدول زراعة وإنتاجًا للحشيش، وداخل هذه البيئة ظهرت جماعة «طالبان»، وهى من أكثر الجماعات التى يُقدم أعضاؤها على تنفيذ عمليات انتحارية. ولعلك تعلم أن السيد «جمال الدين الأفغانى» أحد المجددين الثوريين دلف إلى مصر وغيرها من البلاد العربية والإسلامية من جبال الأفغان، وهو بالمناسبة شيعى المذهب، كما ترجح الكثير من الروايات التاريخية. حول «الأفغانى» يحكى أحمد لطفى السيد فى مذكراته أنه قال له ذات يوم وهو يدعوه إلى «التدخين»: «ألا ترى أن الإنسان منذ نشأته إلى الآن يأكل ويشرب ويلبس على خلاف فى الصورة فى العصور المتغيرة، لكن الجوهر واحد.. فما الذى جد عليه حتى علا نفسه فى القرنين الأخيرين، فاستكشف البخار والكهرباء؟ لا أظن أنه جد عليه شىء إلا شرب الدخان.. اشرب يا ولدى اشرب»!