خيري منصور... فارس اللغة وفريستها !
من يُصدّق أن الخنجر قد يأخذ شكل التحيّة بين أبناء المهنة الواحدة ؟ هُو العربي الذي عاشَ بلا حدود وماتَ إلى حدٍّ ما، إنه الكاتب الذي غرّد خارج السرب وتسلّلَ إلى المستقبل بثقافته كما وصفه أحمد دحبور وطوّع الجغرافيا ولم يمتثل لموروثات المثقف العربي في العيش بحالة إقصاء عن المشهد في بلده، حصد المشهد قبل موته لأننا موهوبون في استحضار موتانا وبالتّغني بهم عند تأكّدنا من رحيلهم وموتهم تماماً... نُحبّهم أكثر.
المنفيُّ باختياره والموسوعي بثقافته والفلسطيني بوعيه قبل هويته وهو سيّد اللغة والكلام وأهم ممن كتبوا باللغة العربية فوق الأرض وتحتها مذ لثغت هذه الأمة بالأبجدية!
(مافاتك الكثير ولكن فاتنا)أشباه المثقفين مازالوا على حالهم، يبدلون ربطات أعناقهم غير الأنيقة ويحاولون بالاستعراض إقناعنا بنثرهم الأعرج وبأن الخلاص بين أياديهم, يشفق التاريخ عليهم، سوف يدرك كل منهم حقيقة المسألة وسرّ الكون ومعنى الإخلاص للثقافة لاحقاً.
القهوة لم يتغير مذاقها،ربما لم تعُد يا خيري فنجان قهوتنا الأول في القدس العربي و الخليج الإماراتية أو الأهرام المصرية أو صحيفة الدستور الأردنية لكنّك مدفون فينا وفي ما نحاول أن نبوح به من شِعر وبلاغة ، المدينة التي دجّنتها بخيالك تغيّرت لكنها لا تكبر كما يعتقد سكّانها بل تتورّم, والصحف العربية أغلبها محشوّة باللغو والشعر الرديء ومقهاك صار موحشاً وممتلئاً بأشباه الشعراء وزبائن الثقافة الجدد.
أما بالنسبة لأصدقائك فرغم عزلتك ووحدتك وقرارك في عدم مخالطة الناس لشهور وإقصاء أشباه الأصدقاء قبل رحيلك أصبح لديك بعد موتك الكثير منهم الذين لا تعرفهم حتّى ( أصدقاء من طرف واحد).
أما البقية فهم يمارسون كل ما كانوا يفعلونه قبل موتك فالحياة قوية جداً، (يُنسى بعد موته حتى من وهبنا الحياة،)
بينما من هم مثلك ومثل كنفاني وكمال ناصر وغسان طهبوب وسميح القاسم وأحمد دحبور وحسين البرغوثي وزياد العناني وممدح عدوان وغالب هلسة.. شعروا بخيانة الموتى عند بقائهم على قيد الحياة، كما شعرتَ بعد موت صديقك المدفون فيك محمود درويش، فكل هواء تنفسته وكل ابتسامة من امرأة جميلة وكل نعمة عشتها كانت بنظرك سطواً على حصته منها، يا لهذا الإخلاص الحقيقي بين أبناء المهنة الواحدة!
يعرف كل من عرفك أنك كنت تمشي أسرع من رصاصة كادت أن تقتلك، وتنمو خارج الجغرافيا وكنت تسترق النظر إلى الأمس والذكريات لتستل منها كل الخيبات وما تأجّل من كلام، أما أنا فأجمع أسبوعياً بعض الصفحات من صبي الأسرار وغزلان الدم وأبواب ومرايا وخنجر يأخذ شكل البلاد وأقرأ ما تيسّر مرة أخرى وأعيدها تحت تمثال بوشكين أو فوق قبر لينين، في الساحة الحمراء- موسكو.
ما لنا ولكل هذا البوح وإعادة انتاج الذكريات طالما أنك حاضر فينا بما خلّفته من شعر ونثر ومعرفة وبَوح..
خيري منصور ...إليه يمشي !
يقفُ على بابِ موعدنا يُفتّش
عن رائحةِ الحُبّ في ظلّي
ويمشي ...
ويستعيرُ من الزمان عبرةً
ويمشي ...
يَمشي إلى غدهِ أسرع
من رصاصة كادت أن تقتلهُ
ثمّ يَسترقُ النظرَ إلى أمسهِ
ليستلّ منهُ خيباته
وما تأجّل من كلام
يمشي بخواتٍ أكبر
من خاصرة الكون
ويمشي ...
يمشي كأنّ المشي قدر
وليس قراراً
يمشي كأنّه هارب
من فرار
ويمشي ...
يُحبّ الذهابَ الى السينما كي
يرى الناس هناك يُصدّقون
ما يدّعيه الآخرون
ويُكذّبون واقعهم
لن يروا حاضرهم إلّا
إن تحوّل فكرة للمخرجين
ويمشي
وهو الساخر من حاضره
والمُعرض عن سماع حفيفه
والأصمّ إن تعالى صداهُ
ويمشي ويعلو ...
ويعرفُ كيف يُغمض قلبه
وينام قبل عرسه بساعة
لئلّا يرى نفسه وحيداً
بعد عرسه بساعة
ويمشي ....
وعادة ما يُصبهُ الفضول
في الشتاء
فيمشي إلى شتاء لا آخر له
أبيضَ أبيض
يصحو ويقرأ يومه
في رائحة القهوة
قهوته الّتي لا تخيّب حدسه أبدا
ثم يُغني مع امرأة
صوتها الحاد مثل حد الحسام
فيروز
فيروز هجرتنا إلى البياض
وإلى العاشقة بيروت
ويمشي مثل لاعب السيرك
فوق وتر كمان لا يشيخُ
ولا يسقط إلأ فوق فراش حبيبته
مثل الغيمة
يحُب المشي فوق العشب الّذي
لم يدسّهُ أحدٌ بعد
ويعدو فوقه دون أن يوقظه
مثل القُبلة
لم يسرق هديل حمامة يوماً
ولا مخالبَ ذئب
لكنّه يكون حمامة أو ذئبا
لو قرّر المشي وسط الغابة
ويمشي
فوق رخام الحٌلم ويمشي
لم يسع للبدائل
لئّلا تغيب التفاصيل
يدافع بشراسة عن اختياره
لربطة عنقه
ليس دفاعًا عن ذوقه
بل لأنّها حول عنقه
يُحب أن يقلّده الاخرون
ليراهمُ الناس ...ثم يروه
ويدركون حقيقة الأشياء
ويمشي ...
ترتديه العواصم
وتحاول أن يكون منها
يحب الجلوس في المقهى الشعبي
خلف الطاولة مقعد واحد
لا هامش لصمته أو لضفتي كلامه
صوته زفير القيامة العاجلة
خطاهُ مثل خطاياه ...كثيرة
يحب الرواية وقراءتها لكن
لا يحب أن يكون روائياً
ليظلّ شاعراً كاملاً بالمطلق !
ويمشي صوب فلسطين
ويمشي
وتمشي إليهِ أسرع منهُ
لتهمسَ في جرحه
إني اشتاقُك
يا صبيّ البحيرة
يا ابني البعيد عن عشبي
يا أيها المتعدّد في واحد
يا وحيد لغتك
يا وحيدي
يا أيّها المشّاء صوبي
ارحل إلى أي بلد تُحب
لكن لا تُصدّق أنّك
رحلت أو وصلت
الاغتراب ملاذ الشاعر
وسلّمه إليه
وخطوته الأولى
صوب القصيدة
ويمشي ...!