«آدم الأول».. محاكمة السرديات الكبرى روائيًا
فى روايته الثانية «آدم الأول»، التى صدرت مؤخرًا عن دار «ملهمون» الإماراتية، لم يغادر الكاتب الصحفى والإعلامى الدكتور محمد الباز مقعده الأثير كباحث أكاديمى لا يقبل بغير الشك كمفتاح للوصول إلى الحقيقة، ولا يرتكن إلى ما استقر عليه السابقون من أفكار وتصورات فاعتبروها من المسلمات التى لا تقبل المناقشة أو إعادة النظر والتفكير فى جوانبها واحتمالاتها، أو أصولها ومآلاتها، ولا يتوقف عن محاكمة ما اعتبرته الجموع رموزًا لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، أو مناقشتها، بينما يعمد هو إلى هز جذورها، والبحث فى جوانبها، ومناقشتها بحرية لا يقبل بها الكثيرون، بل لا يطيقونها ويفزعون منها.. وربما لهذا لم يفعلها إلا قلة من الروائيين والكتاب الكبار حول العالم، ومنهم نجيب محفوظ فى رواياته «الطريق»، و«الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، والإيطالى «أمبرتو إيكو» فى «اسم الوردة»، والأمريكى دان براون فى «شفرة دافنشى»، والبرتغالى جوزيه ساراماجو فى الكثير من أعماله التى اشتهرت بمراجعتها لفكرة الخلق، والأحداث التاريخية خصوصًا فى روايتيه «قايين» و«الإنجيل يرويه المسيح».
فعل ذلك الباز فى روايته الأولى «الزينة.. سيرة وجع» التى صدرت قبل عامين عن دار «بتانة»، التى كانت المواجهة فيها مع ما توارثته الأجيال، وتحدثت عنه الديانات الكبرى، وقال به السابقون من حكايات وأساطير أو سرديات تتكلم بالتفصيل عما يمر به الإنسان بعد الموت، وإن اختلفت طريقة المواجهة، أو محاولاته لهز ما استقر من أفكار تخص تلك الرحلة التى لم يعد منها أحد ليخبرنا بحقيقتها.. وإن اختلفت، أيضًا، لغة السرد التى غلب عليها الشجن والأسى، بما يتفق مع شخصية «الراوى» الذى فقد للتو والدته، فراح يقضى كل خميس إلى جوارها، يحدثها ويحدثنا عنه وعنها، وعن ميراثنا الشعبى فيما يخص رحلة البعث والحساب.
ومن تفكيك «الموت»، وسؤال «ما الحياة إذن؟ وماذا ينتظرنا بعدها» فى «الزينة.. سيرة وجع»، ينتقل الباز فى «آدم الأول» إلى سؤال آخر، وسردية كبرى أخرى، يحللها ويضعها على مائدة الشك والبحث والتنقيب.. «من نحن؟ ماذا نفعل فى هذه الحياة؟ وما حدود مسئوليتنا عما نفعل فيها وبها؟»، يفعل ذلك عبر سردية روائية استخدم فيها ما يناسبها من حيل وأساليب وتقنيات روائية باحترافية كاتب متمرس، ليس جديدًا على حقل الكتابة الروائية، على عكس ما يدعى عندما يحلو له أن يداعب أصدقاءه من الكتاب ومن أصابتهم حرفة الأدب، فهو يبدأ روايته بأسلوب تشويقى محترف يوحى بأنك أمام رواية بوليسية، ربما تحركها جريمة قتل أو انتحار، فتبدأ بسرد «سعاد» لوقائع عثورها على جثة عشيقها «يوسف»، الصحفى الشاب، القلق، الذى تحيره التساؤلات عن جدوى وجوده، وأهمية ما يفعله فى هذه الحياة، لتتركنا مع ما تركه خلفه من أوراق تخص ليلته الأخيرة على هذه الأرض، والتى تتصدرها عبارة مراوغة، ربما نجد فيها واحدًا من مفاتيح قراءتنا لهذه الرواية: «كل البدايات مؤكدة، وكل النهايات محتملة»، فكل البدايات، حسبما تخلص الرواية، «مؤكدة الحدوث»، و«كل النهايات محتملة»، حسبما يقول آدم الذى لا ينفى ولا يؤكد معلومة واحدة من كل السرديات التى تحدثت عن قصة خلقه، وعن حدود مسئوليته عما يمر به الإنسان فى حياته.
حيلة احترافية أخرى يستخدمها الباز بداية من رحلتنا مع أوراق يوسف الخاصة، وتفاصيل ليلته الأخيرة التى قرر أن يقضيها وحيدًا، إذ تمتلئ تلك الأوراق بأسماء شخصيات شهيرة ما زالت تعيش بيننا، وتسرد وقائع أحداث حقيقية، كتبت عنها الصحف، وتداولتها الأقلام، بما يوحى بأننا أمام رواية تسجيلية، لا يدخلها الخيال من يمين أو شمال، فإذا ما توغلنا فى الرواية قليلًا، نكتشف أننا مع خيال كامل، ومحاكمة متقنة لكل ما وردنا فيما يخص سردية الخلق الأول، وعبثية الحياة، وجدوى الوجود، عندما يلتقى يوسف وهو غارق فى تساؤلاته وحيرته فى الدقائق الأولى من ليلة رأس السنة بآدم الأول، يظن فى البداية أنه مجذوب آخر من مجاذيب الحياة، ومدعى النبوة، ليكتشف مع الوقت، ونكتشف معه أنه هو، آدم الأول، ينفخ الله فيه الروح لمدة ليلة واحدة هى ليلة رأس السنة من كل عام، يعود خلالها ليطمئن على حال أبنائه، وها هو يقضى ليلته تلك بصحبة يوسف، بلحمه ودمه، وحيرته، وعذابه، وقلة حيلته فى رحلة خروجه من الجنة، وفيما ألصقه به البشر من صفات، وما روته عنه الكتب من حكايات وأساطير يفندها ويحكى عنها فى محاولة للتهدئة من حالة الغضب والإحباط، أو اللا جدوى التى يعيشها يوسف، وتعيشها البشرية منذ فجر الخليقة، ويبدو أنها سوف تستمر معنا حتى يرث الله الأرض.. يحكى عن أيامه فى الجنة وعن خلق حواء، وعلاقته بها، عن إبليس والحية، والشجرة التى تم طرده من الجنة بسب الأكل من ثمرتها، عن عبادة بعض البشر لإبليس، وغيرته منه.. وغيرها الكثير والكثير من الحكايات، والمواقف والألغاز التى طالما حيرت البشرية.
فى بداية الفصل الرابع من أوراق يوسف، الذى يحمل عنوان «حفل توزيع اللعنات»، يتساءل الصحفى الشاب: «هل آدم هو حقيقتنا التى نحن عليها أم خيالنا الذى نريد أن نكونه؟».
وفى نهاية الفصل السابع يقول له آدم: «ما قلته لك يا يوسف إننى لم أعرف الراحة، ولن أعرفها أبدًا، فدعنى لما ينتظرنى، ولا تكذب باسمى، ولا تنسب إلىَّ ما لم أقله».. «دعنى لما أنا ماضٍ إليه، وامض لما ينتظرك».
ويكتب يوسف: «استسلمت للنهاية المفاجئة، رفعت يدى أودع الطيف الذى أوشك على التلاشى تمامًا، وقلت له: «أى شىء ينتظرنى يا سيد آدم وأنت جئتنى بما يهرب منه الجميع: لا يوجد شىء.. لا يوجد شىء على الإطلاق».
أخيرًا، لا أعدكم برحلة سهلة أو ناعمة مع هذه الرواية الملغمة الحافلة بالأسئلة الشائكة، والمحاورات المجهدة، لكننى أعدكم بمتعة اكتشاف الكثير من المسكوت عنه فى رحلتنا مع هذه الحياة، وربما بليلة أخرى مع «آدم الأول» تبدأ من نقطة أخرى غير كوبرى قصر النيل، ومن أسئلة أخرى غير أسئلة يوسف، ومحاكمة أخرى لسردية كبرى جديدة.