«العريشى».. و«العروسى»
هذه قصة معركة كبرى على كرسى مشيخة الأزهر، بطلاها شخصان، أولهما: الشيخ عبدالرحمن بن عمر العريشى، وكان حينها واحدًا من كبار علماء المذهب الحنفى، وثانيهما الشيخ أحمد العروسى، وكان أحد أكابر علماء المذهب الشافعى فى مصر. ولد الشيخ «العريشى» بغزة، وفيها نشأ، وبدأ مشواره فى التعليم، وحفظ المتون، اكتشف أحد المشايخ هناك موهبته فى الحفظ واستخلاص الأحكام، فاصطحبه إلى القاهرة، ليلتحق بالأزهر الشريف. وارتبط بصداقة قوية مع الشيخ حسن الجبرتى، والد المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتى، واستفاد من مكتبته العامرة بالعديد من المؤلفات. ومن يراجع تاريخ «الجبرتى» يلاحظ احتفاءه الخاص بالرجل، بسبب الصداقة التى ربطت بينه وبين أبيه. وقد واتت الشيخ العريشى فرصة جيدة للصعود داخل أروقة العِلم الدينى، حين تولى مشيخة رواق الشام، بعدها جاءته فرصة جديدة بعد وفاة مفتى الحنفية، الشيخ أحمد الحماقى، إذ ورث منصب المفتى مكانه، وذاع صيته، واشتهر بين الناس بعلمه، واقتنى دارًا بالقرب من الجامع الأزهر.
امتاز «العريشى»، كما تحكى سيرته التى نقلها «الجبرتى»، بموهبة خاصة فى مجال العلاقات العامة، وواضح أنه كان واعيًا تمامًا بدورها فى الصعود إلى المناصب داخل المحروسة، فوثق علاقاته بالأمراء، وكان يقيم لهم الولائم والعزائم، ويمد يده بالعطاء لمن حوله، وقد مكنه ذلك من تكوين شبكة علاقات جيدة أراد أن يستغلها، حين تضعضعت صحة الشيخ أحمد الدمنهورى شيخ الأزهر، وتاقت نفسه إلى أن يحل محله فى المشيخة بعد وفاته. وقد كان منصب شيخ الأزهر من أرفع وأغلى المناصب التى تتوق إليها نفوس علماء الدين الذين عرفتهم مصر. لم يكن الأمر سهلًا لسببين: أولهما أن الشيخ العريشى حنفى المذهب، وقلة من أصحاب المذهب هم من تبوأوا موقع شيخ الأزهر، أما الغالبية فكانت من كبار علماء المذهب الشافعى، وكانت هناك قاعدة تقول إن «مصر بلد الشافعى»، وبالتالى يتوجب أن يوضع على رأس المشيخة من على هذا المذهب، وثانيهما أن «العريشى» لم يكن مصريًا صميمًا من أولاد البلد، بل من الرُحّل إلى مصر، وكان المصريون يصفون أمثاله بـ«الآفاقى» الذين يأتون إلى مصر من حدب وصوب وأفق.
أمام العقبات التى كان يدرك أنها تحول بينه وبين الوثوب على مشيخة الأزهر، أراد الشيخ «العريشى» أن يلعب لعبة يستولى بها على المنصب. ذهب إلى «إبراهيم بك» شيخ البلد، ورتب معه لاجتماع يضم المشايخ، وفى هذا الاجتماع أعلن «العريشى» أن الشيخ أحمد الدمنهورى، شيخ الأزهر، أقامه وكيلًا عنه، وبعد الاجتماع بأيام مات «الدمنهورى»، فأُعلن الشيخ «العريشى» شيخًا جديدًا للأزهر، ومكنه من ذلك بعض الأمراء الذين ربطتهم به علاقات قوية، بالإضافة إلى بعض كبار المشايخ فى دائرة علاقاته العامة، مثل الشيخ السادات والشيخ أبوالأنوار. وحينما وصلت هذه المعلومات إلى بعض الشافعية ارتجوا وانتفضوا، وقرروا الحيلولة دون استيلاء «العريشى» على المشيخة بهذه الطريقة. ذهب جمع منهم إلى الشيخ محمد الجوهرى وأقنعوه بضرورة التحرك، فتحرك معهم، وذهبوا ومعهم مجموعة من أكابر الشافعية، على رأسهم الشيخ أحمد العروسى، وانتهى الاجتماع إلى كتابة عرضحال إلى الأمراء مضمونه- كما يحكى «الجبرتى»- أن مشيخة الأزهر من مناصب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد، خصوصًا إذا كان آفاقيًا وليس من أهل البلدة «يقصدون الشيخ العريشى»، واتفق الحاضرون على اقتراح اسم «أحمد العروسى» كشيخ جديد للأزهر، وختموا على العرضحال، وأرسلوه إلى الأميرين إبراهيم بك ومراد بك.
قوبل طلب الشافعية بالرفض من جانب الأميرين، وكبر عليهما أن يتراجعا عن قرار تعيين «العريشى»، وأن يقول الناس إن مشايخ الشافعية وأنصارهم أملوا إرادتهم عليهما. وما إن وصل الرد إلى الشافعية حتى ثارت ثائرتهم، وأخذ الشيخ محمد الجوهرى فى النداء عليهم وجمعهم، فاجتمع عليه كثيرون، وقاد الجمع بنفسه إلى جامع الإمام الشافعى، وتجمهروا هناك، وقرروا المبيت فى المسجد، وكانت ليلة جمعة، فلما أصبحوا هرعت إليهم العامة وتجمع حولهم الكثيرون، لمتابعة ما ستئول إليه الأمور. وصل تحذير من مشايخ الشافعية من وقوع فتنة كبيرة بالبلاد، إذا لم يستجب الأميران لمطلب تعيين الشيخ أحمد العروسى شيخًا للأزهر. وأمام التحذير تم التوصل إلى حل وسط بأن يلبس الشيخ العروسى فروة مشيخة الشافعية، ويرتدى الشيخ «العريشى» فروة مشيخة المالكية، كما تم تعيين شيخًا للمالكية. لم يؤد هذا الحل إلى تهدئة الأمور، بل تسبب فى انقسام الشارعين الدينى والشعبى إلى حزبين: حزب العروسى، وحزب العريشى، وكان لكل حزب أنصاره من الأمراء والمشايخ، أما الشارع الشعبى المصرى فقد كان مؤيدًا للشيخ العروسى، فى حين أيد الشعبيون الشوام والمغاربة الشيخ العريشى.
استمر الأزهر باثنين من المشايخ، أحدهما شافعى والآخر مالكى، لمدة ٧ أشهر كاملة، حتى بدأت المواقف فى التحول، فانقلب الكثيرون على الشيخ «العريشى»، واضطر الأميران فى النهاية إلى تثبيت الشيخ «العروسى» بمفرده شيخًا للأزهر، وتم تحديد إقامة الشيخ «العريشى» فى منزله. وقد أصابه هذا الموقف بحزن وكمد عظيمين، فاعتلت صحته، ولاحقته الأمراض، وظل يعانى، حتى نفذ فيه أمر الله، ووافته المنية بعد ٣٩ يومًا من تحديد إقامته بمنزله. ويبدو أن الناس قد شعروا بنوع من الذنب نحوه، فأرادوا مراضاته- بعد فوات الأوان- بالمشاركة الكثيفة فى تشييع جنازته، فصلوا عليه بالأزهر فى مشهد حافل، وحضر مراد بك وكثير من الأمراء والمشايخ الصلاة عليه، وتشييعه إلى مثواه الأخير.