«نجيب محفوظ» الذى أعرفه
بقلم: نعمة عز الدين
فى ذكرى ميلاده الثانية عشرة بعد المائة قررت أن أجاوره هو وشيخه «عبدربه التائه».. فليس لى مطمع فى صخب الدنيا وأحداثها.. بعد أن تجاوزت سنوات عمرى السابعة والخمسين.. فأنا أخيرا آمنت بحكمة الروائي الكولومبى الكبير جابرييل جارسيا ماركيز: «ما يهم فى الحياة ليس هو ما يحدث لك، ولكن ماذا ستتذكر وكيف ستتذكر ذلك».
لذلك هُيئ لى أنى أجالسه فى أحب الأمكنة إلى قلبه فى «مقهى الفيشاوى» الضارب فى الزمن، كشاهد على من جلس بين جنباته.. الكل فى المقهى سواء.. الغفير كالأمير يأخذ واجب الضيافة ويرحل.
ولدهشتى رأيته ممتلئ القوام وليس كهيئته فى سنواته الأخيرة.. مرتديا نظارته الطبية الشهيرة.. واضعا ساقا على ساق.. صافحته وجلست صامتة أراقبه لعله يأذن لى بالحديث معه.. لكن ساعات طويلة فصلت بيننا.. ثم فجأة أشار إلى كتابه «أصداء السيرة الذاتية» الذى كنت أحتضنه بيدى.. وأمرنى بالقراءة.. فتلعثمت فى البداية ولكنى قرأت: قال الأستاذ.. البلاغة سحر.
فأمنا على قوله ورحنا نستبق فى ضرب الأمثال
ثم سرح بى الخيال إلى ماض بعيد يهيم فى السذاجة
تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها فى ذاتها مثل
أنت.. فيمَ تفكر.. طيب.. يا لك من ماكر
ولكن لسحرها الغريب الغامض
جنّ أناس.. وثمل آخرون بسعادة لا توصف
ثم أشار إلىّ أن أتوقف.. وخيل لى إنه يقول لى ماذا فعلت بك الكتابة؟ هل مهنة الصحافة خمرها كثير يسكر أم مرها شديد علقم؟
هل عشتِ حياتك فيها كما تريدين؟ ثم سكن برهة وبدأ يعزينى فى وفاة زوجى وحبيبى وزميلى الراحل يسرى شبانة.
ثم أوصانى بمقولة شيخه: «عبدربه التائه»: أسكت أنين الشكوى من الدنيا، لا تبحث عن حكمة وراء المحير من فعالها وفر قواك لما ينفع وارضَ بما قسم، وإذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب والنغم.
تطول فترات الصمت بيننا ولكنه أشار إلىّ أن أستأنف مرة أخرى القراءة فى كتبه «أصداء السيرة الذاتية» ولكن عند فقرة:«سألت الشيخ عبدربه التائه: لماذا يغلب عليك التفاؤل؟
فأجاب: لأننا مازلنا نعجب بالأقوال الجميلة حتى وإن لم نعمل بها.
عندما انتهيت رفعت رأسى.. فرأيته مبتسما يربت على كتفى فى حنو الأب قائلا: «كلنا أنت يا بنيتى فهو يطاردنى من المهد إلى اللحد، ذلك هو الحب».. «خفقة واحدة من قلب عاشق جديرة بطرد مائة من رواسب الأحزان».. هكذا يقول شيخى «عبدربه التائه».
ثم استكمل ما بدأه من حديث قائلا: «أصابتنى وعكة فرقانى الشيخ عبدربه التائه ودعا لى قائلا: اللهم مُنّ عليه بحسن الختام.. وهو العشق».
أنظر إليه خلسة.. فأجده يراقب اضطرابى وتعرق يدى الممسكة بقوة بكتابه «أصداء السيرة الذاتية».. فينصحنى بما نصحه شيخه «عبدربه التائه» حينما سأله: «كيف تنتهى المحنة التى نعانيها؟ فأجاب:
إن خرجنا سالمين فهى الرحمة وإن خرجنا هالكين فهو العدل، ثم اعتدل فى جلسته ليكون أقرب إلى الطاولة التى تفصلنا ناصحا إياى بما قال له الشيخ عبدربه التائه: الحاضر نور يخفق بين ظلمتين.
فور انتهائه من حديثه قلت: وما عساى أن أفعل بعد أن تغيرت الدنيا وفقدت فى الطريق الكثير من الأحباب والأمل والحماسة؟ فسمعنى دون أن ينظر لى ثم قال: يقول الشيخ عبدربه التائه: جاءنى قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة، فقلت لهم: تحركوا دون إبطاء فالمعنى كامن فى الحركة».
ثم أخذ يتمتم بكلمات هامسة وكأنه يتذكر البدايات: ذلك الرجل الذى كان ينادى «ولد تائه يا ولاد الحلال»، ولما سُئل عن أوصاف الولد المفقود قال: «فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عنى جميع أوصافه، فعرف بعبدربه التائه، وكنا نلقاه فى الطريق أو المقهى أو الكهف وفى كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمى بهم فرحة المناجاة فى غيبوبة النشوات، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم بالخمارة، ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لى الفراغ، وإن فى صحبته مسرة وفى كلامه متعة وإن استعصى على العقل أحيانا.
بدأ يطوى الجريدة التى كانت على الطاولة.. ويرتب عدة كتب كانت على طرف الطاولة بجوار النافذة.. ثم التفت لى قائلا: لا تحزنى فعلينا الشكر للرحمن كما قال الشيخ عبدربه التائه: «الحمد لله الذى أنقذنا وجوده من العبث فى الدنيا ومن الفناء فى الآخرة».
وقف وحيانى مبتعداً.. لتتلاشى صورته وسط الزحام.. فتذكرت قول الصديق الحكيم:«قوة الذاكرة تنجلى فى التذكر كما تنجلى فى النسيان».