الكيان والمترو المكيف
بينى وبين المترو ما صنع الحداد، حتى قبل أن يكون مكيفًا، فتصير بيننا قطيعة، كنت قبل هذا الكائن الحديدى المزيف راكبًا قطار كوبرى الليمون، وخط سيره من رمسيس إلى شبين القناطر، بزخمه وعنفوانه، يذكرنى بقطار الصعيد حين نسافر به إلى أسوان، «آخر بلاد المسلمين»، نستقله من «المخزن» لنضمن كنبتين خشبيتين تستقر عليهما أمهاتنا وعماتنا، فى زحام الدرجة الثالثة، وهو زحام خليط بين البشر والطيور الحية واللحوم النيئة.
وقبل أن أقرأ عبدالحكيم قاسم فى قصته العظيمة «زيارة»، أو محمد مستجاب فى قصته المدهشة «قطار المرج»، كنت قرأت كتابًا لروسى اسمه على ما أتذكر «التثقيف الذاتى»، يروى فيه كيف كان يقطع القطار يوميًا فى الاتحاد السوفيتى إلى عمله مستغلًا هذه الرحلة اليومية فى القراءة.
بطبيعة الحال لم أتمكن من فعل ذلك فى قطار كوبرى الليمون فقد كنت صغير السن، أهرب من الكمسرى والمخبرين، لكن حدث هذا مع «مترو المرج»، قبل أن يكون مكيفًا، إذ بدأت قراءة كتب الجيب والروايات الورقية، حتى ظهر الـ«بى دى إف»، والمواقع الإخبارية، على هذا المحمول الصغير، فأخذت من وقتى الكثير فى رحلتى القصيرة من بيتى إلى عملى، وصار همى معرفة أخبارنا المحلية والعربية والدولية أولًا بأول.
لم تكن مثل هذه الأخبار سعيدة بأى حال، ثمة حروب ومجاعات، وقهر دول ضد دول وحكام ضد شعوب، وشعوب ضد أنفسها، لكن أكثر ما كان يقهرنى ويشعرنى بالعجز أخبار أهلنا فى فلسطين المحتلة، وتجبّر الاحتلال فى تعامله مع غزة والضفة الغربية ومدينة القدس والأماكن المقدسة، وطرده السكان العرب، أصحاب الأرض والسماء، فى مقابل بناء بؤر استيطانية، واقتحام المخيمات وقتل الشباب، فى تحد سافر لكل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، يقابله صمت فادح من مجتمع دولى متواطئ مع حكومة يمينية متطرفة وإرهابية، فضلًا عن هرولة عربية مشينة تجاه التطبيع المجانى. ومع هذه الغطرسة الإسرائيلية لا تتردد مراكز الأبحاث الصهيونية فى نشر الأكاذيب عنا، ومن بينها دراسة تزعم فيها أن تطوير المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية فى مصر جعل الطلاب يتعلمون التسامح مع اليهود «لأول مرة»، وأن هناك اعترافًا بالارتباط اليهودى بـ«أرض إسرائيل»، وهى دراسة أجراها أحد المعاهد بقيادة ما وصفه الإعلام العبرى بأنه الباحث الأول فى معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى.
هى أكاذيب تضاف إلى سجل الجرائم الصهيونية، فليس بيننا وبين اليهود أزمة وجود، لكن المشكلة الحقيقية فى احتلال الكيان الصهيونى أرض فلسطين، إذ عاش اليهود فى مصر وتونس والمغرب والأندلس فى سلام، لكن حين تم احتلال الأرض العربية، «وهو احتلال بلا جدال حتى اسأل الأمم المتحدة»، أصبح الأمر مختلفًا، وإذا كانت الحكومات قد عقدت اتفاقيات مع هذا الكيان، فإنها اتفاقيات غير ملزمة للشعوب، ومن ثم لم ولن يحدث أى اعتراف عن تخاريف ربط اليهود بأرضنا العربية، إلا تحت سيادتنا العربية.
كثيرون يعرفون علاقتى بالمترو المكيف، وكيف كنت أصفه بألفاظ يعاقب عليها القانون، ويخجل منها المجانين، ولا يختلف الأمر مع الكيان الصهيونى، إلا فى غير أننى أسب المترو محبة ومزاحًا، بل على العكس أفخر بهذا الإنجاز المصرى وبخاصة محطة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، التى قرأت فيها خبر استشهاد الشرطى المصرى الذى عبر الحدود مطاردًا المجرمين من تجار المخدرات وأعداء الحياة.