البريكس وأشياء أخرى
فى عصور التحولات الكبرى تكتب الدول تاريخها وتختار مكانها، ولا شك أن العالم يعيش فترة تحولات ينتهى فيها نظام القطب الواحد ويتشكل عالم جديد.. فى قلب هذه التحولات كانت مصر طرفًا مساهمًا منذ اللحظة الأولى لميلاد ثورة ٣٠ يونيو التى أسهمت فى إنهاء السيناريو الذى كان معتمدًا للمنطقة وبدأ سيناريو جديد.. عبر السنوات من ٢٠١٣ حتى ٢٠٢٠ كانت التغيرات تتخلق فى رحم العالم.. ومع أزمتى كوفيد- ١٩ ثم الحرب الأوكرانية بدأت آلام المخاض.. أحد ملامح التغيرات الكبرى هو توسع منظمة البريكس ذات الدول الخمس الناهضة اقتصاديًا ونظرها فى ضم اثنتى عشرة دولة جديدة لعضويتها من بينها مصر.. البريكس تضم الدول التى ستشكل مستقبل العالم اقتصاديًا وسياسيًا.. فهى تضم الصين ثانى أقوى اقتصاد فى العالم والتى تسير بثبات نحو المركز الأول.. وهى تضم روسيا القوة النووية الثانية فى العالم ووريثة الاتحاد السوفيتى القديم شريك أمريكا فى حكم العالم لخمسة عقود ويزيد وهى تضم أيضًا الهند.. العملاق الاقتصادى الهادئ والذى أزاح بريطانيا مستعمره القديم من ترتيب خامس اقتصاد فى العالم وجلس مكانها بمنتهى الهدوء هذا العام.. فى البريكس أيضًا البرازيل صاحبة التجربة التنموية الخارقة والزعيمة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا العملاق الاقتصادى الإفريقى.. فى اجتماعهم يوم الخميس الماضى طرح رؤساء دول البريكس فكرة ضم أعضاء جدد واستمعوا لممثلى هذه الدول الراغبة فى الانضمام ومن بينها مصر وقرروا حسم الأمر فى أغسطس القادم.. انضمام مصر للبريكس يضع الاقتصاد المصرى فى مرحلة جديدة من التعاون مع هذه الدول الصاعدة بقوة الصاروخ ويستكمل ملفات تعاون مفتوحة بقوى مع دول مثل الصين وروسيا والهند.. وربما نرى فى الفترة القادمة مزيدًا من التعاون مع البرازيل وجنوب إفريقيا.. مصر تدخل نحو تجمع البريكس ومعها أوراق اعتماد تتمثل فى موقعها الفريد بين الشرق والغرب وقائمة فريدة من الموانئ الحديثة على البحرين الأحمر والأبيض تصعب منافستها.. فضلًا عن كتلة سكانية كبيرة تمثل سوقًا مغرية للدول ذات الإنتاج الكبير وقوة عسكرية يعتد بها على مستوى العالم.. على أن أهم ما يمكن أن ينتج عن انضمام مصر لهذه المنظمة الصاعدة هو تنفيذ فكرة العملة الموحدة التى تتعامل بها الدول الأعضاء فى البريكس.. تمامًا كما تتعامل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى بعملة موحدة هى اليورو.. العملة الموحدة للبريكس ستخفف الضغط على طلب مصر للدولار.. وربما ستنهيه إلى الأبد وستسهم بشكل عام فى سقوط الدولار كعملة اقتصادية موحدة للعالم كما تنبأ كثير من المحللين الاقتصاديين.. سعى مصر للانضمام للبريكس والتعاون مع دولها فى جهود التنمية لا يمكن قراءته بعيدًا عن خطة تنمية مصر التى تبناها الرئيس السيسى فور توليه الحكم والتى تهدف لتحويل مصر لمركز اقتصادى فى المنطقة من خلال موانئ عملاقة وطرق تربط الشرق بالغرب واستثمارات فى الطاقة بأنواعها تتكامل مع جهود صناعية وزراعية.. هذه الرؤية التى تعمل عليها مصر بدأب وبنوع من الصمت تتعارض مع رؤية أخرى هى الرؤية الغربية التقليدية لمصر والتى هى رؤية قديمة تكشف عنها تسريبات الأجهزة الغربية لوسائل الإعلام.. وهى رؤية تريد توريط مصر فى أكبر كم ممكن من المشاكل المحيطة بها دون تعويض عادل أو ثمن مناسب.. هذه الرؤية كشفت عنها وسائل إعلام إسرائيلية تحدثت عن رغبة فى تسليم قطاع غزة لمصر.. وهو أمر أشبه بأن تهدى أحد جيرانك قنبلة موقوتة فى غلاف من الورق الملون.. فالانتهاكات الإسرائيلية أنتجت لدى أهل القطاع ميراثًا من العنف المضاد والظروف المعقدة والتنظيمات المسلحة تجعل مصر تفكر ألف مرة قبل مجرد التفكير فى العرض الإسرائيلى وترد على إسرائيل هديتها.. فالشاعر نزار قبانى يقول إن من بدأ المأساة ينهيها.. وإسرائيل هى السبب فى مأساة غزة.. نفس الفكر الذى يهدف لتوريط مصر فى المحيط الملىء بالمشاكل والمآسى بسبب ظلم السياسة الغربية وتدخلاتها وتحالفاتها عبّر عن نفسه فى تحليلات لمراكز بحوث أمريكية ترى أن تدخل الجيش المصرى فى السودان هو الحل الوحيد لحسم الصراع هناك وعودة الأمن وإيقاف تدفق اللاجئين.. وهذه أيضًا هدية مسمومة وقنبلة موقوتة تشغل مصر عن خطتها لتنمية نفسها اقتصاديًا وتوجيه مواردها للاستثمار فى المستقبل وتجعلنا نحاسب على أخطاء غيرنا ونتورط خارج حدودنا.. وفى كلا الاقتراحين «التدخل فى غزة والسودان» ثمة نظرة قديمة لمصر تهدف إلى توريطها فى إطفاء حرائق أشعلها غيرها.. والتعامل معها كقوة مطافئ عسكرية كبيرة لا كدولة قادمة بقوة على طريق التنمية تحلم بمضاعفة عائداتها من السياحة والنقل والموانئ والاستثمار المباشر.. لكن ما يدعو إلى الاطمئنان أن فى مصر عقولًا واعية وقيادة منتبهة ذات رؤية واضحة تعرف متى تقول نعم ومتى وكيف تقول لا فى المكان والزمان المناسبين.. أليس كذلك؟