الغاز والاستقطاب الاقتصادى
ثمة تحولات ضخمة على الخريطة العالمية، إعادة تشكيل للتكتلات الكلاسيكية، مع اختلاف الأيديولوجيات الكبيرة، وبناء أخرى جديدة فى منطقتنا، تبدو مغايرة لما عاشته لعقود من أفكار، قوامها الرئيسى كان قوميًا. الحرب «الروسية الأوكرانية» والصراع المحتمل فى تايوان، والضغط على أحفاد «الكتلة الشرقية» وما كانت تُعرف بأنها من «محور الشر»، يحرك الحمم المنصهرة كى تلتحم، مشكّلة تحالفًا، أو استقطابًا، جديدًا سياسيًا واقتصاديًا، وربما وجوديًا فى بعض الحالات، فى مواجهة النفوذ الأمريكى، الذى لا يبعد عنا كثيرًا، بل إنه دخل إلى العصب فى دعمه المطلق للكيان الإسرائيلى، الذى تنامت قوته إقليميًا حتى أصبحت عدة دول تدور الآن فى مجاله الحيوى.
هذا الكيان، ومن يدور فى فلكه، لا يكف عن استراتيجيته فى شد الأطراف، فإذا فشل فى مواجهتك مباشرة فإنه يذهب بعيدًا لحصارك ومحاولة عزلك، مرة بشغلك عن قضايا ليست من أولوياتك، ومرات بالضرب تحت الحزام، وليس هناك أصعب من أن تكون محاصرًا من النيل والماء، وهو حصار كان بمباركة من نظام عمر البشير الإخوانى، وحين سقط هذا النظام، تجرى الآن محاولات لإسقاط النظام ذاته، لتقع الدولة العربية فى براثن صراع طويل الأمد، ونواجه معًا تهديدات الأمن القومى والمائى.
وقبل وقت قريب جرى الإعلان عن مشروع جديد للغاز بين الكيان الإسرائيلى وقبرص، يبدأ بمد خطوط أنابيب من حقول الكيان إلى قبرص، والأخيرة تسعى ضمن هذا المشروع إلى إنشاء محطات إسالة للغاز الطبيعى، بهدف إعادة تصديره إلى أوروبا، وهى التى بدأت تعتمد مصادر جديدة للغاز، بعيدًا عن روسيا بعد الحرب الأوكرانية، ومن بين هذه المصادر مصر والجزائر فى شمال إفريقيا.
ومصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تمتلك محطات إسالة للغاز، ومن خلالها تصدر غازها، أو تعيد تصدير غاز الغير، بعد تسييله، وتسعى من خلالها لأن تكون مركزًا إقليميًا للطاقة.
بيننا وبين الكيان الإسرائيلى اتفاقيات بأن يرسل غازه إلى محطات الإسالة فى دمياط، ومن ثم إعادة تصديره إلى أوروبا، وبيننا وبين قبرص خطط قريبة أهمها مد خط أنابيب معها ومن ثم إلى أوروبا، لنقل الغاز، ولا نعرف ما مصير هذه الخطط الآن؟.
خط الغاز الجديد الذى تسعى إليه قبرص هو بديل عن خط أنابيب «ست ميد» الذى كان مفترضًا أن يكون تحت سطح البحر لتزويد أوروبا بالغاز من شرق البحر المتوسط عبر الكيان الإسرائيلى واليونان وقبرص، لكن المشروع الأخير توقف نظرًا لتكلفته العالية، ولو أخذنا فى الحسبان التكلفة الباهظة لمحطات الإسالة، فإنه من غير المتصور إنجازها بسهولة مع الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، كما أن مصر لا تعتمد على تصدير الغاز لأوروبا فقط، لكنها تعمل على الربط الكهربائى الذى يوفر الطاقة النظيفة للقارة العجوز.
من المهم ألا نقلق بشكل مرضى بشأن مصير مشروعات الطاقة التى تعمل عليها مصر من أجل أن تكون مركزًا إقليميًا، لكن فى المقابل لا ينبغى أن نقع فى الوهم، وأن نقنع أنفسنا بأن الآخر المسئول وحده عن أى إخفاق، حتى نشعر ببراءة الذات، بل علينا الانتباه، وأتصور أن هذا يحدث بالفعل، لكل هذه التحولات السريعة فى التحالفات الإقليمية، التى تجعل المقرب منك يدور فى فلك خصمك التاريخى، ليصبح لاعبًا رئيسيًا فى استراتيجية شد الأطراف.