مطلوب الرد على المبالغات
لا أميل كثيرًا لتصديق مبالغات «السوشيال ميديا» فى بعض الموضوعات.. أشعر بالقلق من استخدام اللجان الإلكترونية قضايا بعينها لشحن الناس.. بعض القضايا أصبح مثل قميص عثمان.. حق يراد به باطل.. أو مبالغة يراد بها مزيد من الشحن النفسى للناس.. من هذه القضايا الصور المنشورة لعمليات هدم بعض المقابر فى مناطق القاهرة القديمة.. القضية معقدة بدرجة ما ويزيد من تعقيدها غياب المعلومات من الجهات المختصة.. فى مثل هذه القضية لا أرى أن السكوت دائمًا من ذهب.. لأن السكوت يفتح الباب للمبالغات.. إذا كانت المحافظة تزيل مقبرة تم الإيحاء بأنها أزالت ألف مقبرة.. وإذا كانت تعمل تحت إشراف الآثار تم الإيحاء بأنها تنتهك الآثار وتدمرها.. وإذا كانت الدولة تنوى إقامة مقبرة للعظماء فى العاصمة الجديدة تم السكوت عن هذا، والإيحاء بأن من يعملون لا يعرفون قيمة رموز مصر وعظمائها.. هل محافظة القاهرة مخطئة؟ نعم مخطئة.. لا بد من بيان للتوضيح يحدد حجم المقابر التى ستتم إزالتها وسبب الإزالة الذى يتعلق بالمنفعة العامة والحلول التى تم اللجوء إليها لتجنب مزيد من الإزالات.. لأن الصمت يفتح الباب للمبالغات والأكاذيب.. الحقيقة أن مقابر القاهرة القديمة تعرضت لآلاف الاعتداءات على مدى العقود الماضية، وأن حرمة الموتى أهينت، وأن ما هو أثرى من هذه المقابر تم تدميره تحت وطأة الاستخدامات اليومية من المواطنين الذين سكنوا هذه المقابر، وبنى بعضهم بيوتًا جديدة داخلها.. فى البداية تحولت المقابر بعد انتهاكها لمكان طبيعى للأعمال المنافية للقانون.. وكان هناك بينها العشرات من «غرز» الحشيش، وهو الاسم الشعبى للمقاهى التى تقدم المخدر التاريخى فى مصر.. ومع اشتداد أزمة الإسكان فى السبعينيات انتقل الأحياء للسكن فى أحواش المقابر كما صور لنا فيلم «كراكون فى الشارع»، حيث تجاورت حياة عائلة من الطبقة الوسطى مع نشاط تعاطى المخدرات فى المقابر على النحو الذى عبّر عنه عادل إمام بالإيفيه الشهير «أنا شربت حشيش يا سعاد»! ومع تراخى قبضة المحليات وشيوع الفساد فيها تم بناء آلاف البيوت بالأسمنت المسلح فى أحواش هذه المقابر.. وكتبت الصحافة العربية والأجنبية آلاف الموضوعات عن المصريين الذين يسكنون المقابر ويجاورون الأموات.. ولم يغير من هذا الواقع وجود مدفن فلان باشا ولا مدفن صاحبة العصمة فلانة هانم لأن هذه المقابر تم انتهاكها بفعل الفقر والجريمة والعشوائية والاحتياج منذ عقود. ولم تكن فى حاجة لمن ينتهكها من جديد على حد ما تصور بعض الصور المكررة على فيسبوك.. لا أدافع عن ممارسة معينة بقدر ما يهمنى رصد حالة تسخين الرأى العام بحق يراد به باطل وبمعلومات مجتزأة من سياقها.. من الضرورى أن تتحدث وزارة الآثار عن نشاط مفتشيها الذين يصاحبون مهندسى إزالة المقابر لنعرف هل يتم تجنب المقابر ذات الطابع الأثرى أم يتم اقتطاع الشواهد الحجرية الأثرية بنية نقلها إلى مكان آخر.. منذ شهور كتبت مقترحًا نقل المقابر الأثرية كما تم نقل معابد فيلة فى الستينيات بمساعدة اليونسكو علمًا بأن نقل شواهد القبور أسهل بكثير.. بعد عشرات السنوات لا يبقى من الموت سوى الذكرى وتخليد الاسم ونقل المقبرة وشاهدها الحجرى لتنتصب فى مكان آخر.. الهدف هو الحفاظ على الذكرى وليس أى شىء آخر.. لا يعرف الكثيرون أن ميدان العتبة أشهر ميادين القاهرة بنى مكان مقابر قديمة، وأن الرفات التى كانت فى المقابر جمعت ودفنت فى مسجد شهير بعابدين هو جامع «العظام».. أصبح الميدان هو سرة القاهرة الخديوية وضم مؤسسات المدينة الحديثة كلها من المطافئ إلى البريد إلى المسرح القومى إلى قهوة متاتيا إلى الأسواق التجارية الحديثة للغاية وقتها.. وساهم فى ازدهار الحياة الاقتصادية والثقافية والفنية فى مصر بشكل لا يمكن تخيله.. وفى نفس الوقت تم تكريم عظام الموتى ودفنوا فى أقدس مكان يمكن تخيله.. مطلوب من محافظة القاهرة بعض الاجتهاد والبحث عن حلول بديلة تطمئن القلقين وتبطل حجج المتربصين، فلا أحد من المخلصين من مصلحته رفع درجة حرارة الغضب لدى المواطن أو تشويه جهد كبير يتم فى اتجاهات مختلفة للوصول بمصر إلى بر الأمان.. والله من وراء القصد.