طلعت الشايب.. جمال الترجمة والمترجم
لا أظن أننى قرأت أيًا من ترجمات الراحل الكبير طلعت الشايب دون أن يفتننى باختياراته، سواء من حيث الكتاب موضوع الترجمة، أو من حيث اللغة التى يترجم إليها، خصوصًا فى عملية انتقائه الكلمات العربية البسيطة الحية النابضة بالمعنى، والمتسقة مع سياق الحديث، وكأنه اختزن فى عقله جميع مفردات اللغة العربية، بمترادفاتها، ومشتركاتها، وتعبيراتها القريبة من القارئ المعاصر.
ورغم كثرة إنتاجه، وتنوعه، فلم يحدث أن رأيته مرة يكتب عبارات مهجورة من قبيل «بادئ ذى بدء» مثلًا، أو ما شابه من عبارات لا مثيل لها فى لغات أخرى، ولا حياة لها فى عالمنا اليوم، ربما تكون العبارات مفهومة المعنى، لكنها مهجورة، نادرة الاستخدام، ولعل إدراكه المبكر مسألة سياق الجملة، يرجع إلى فترة استدعائه خلال الفترة من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٤، وعدد من ضباط الاحتياط من خريجى أقسام اللغات، لدراسة اللغة الروسية دراسة مكثفة فى كلية القادة والأركان، للاستفادة منهم فى التعامل مع الخبراء والمستشارين السوفيت، والتى عُيّن بعدها مترجمًا للجنرال الروسى، ضابط الاتصال بين الرئيس جمال عبدالناصر وقيادات الاتحاد السوفيتى، ويحكى الشايب أن عمله فى الترجمة الفورية، فى تلك الفترة، كان له أثر كبير فى فهم سياق الكلام، ومن بين المواقف الطريفة التى يحكيها أنه ذات مرة كان يترجم لقاءً بين الفريق سعدالدين الشاذلى، رئيس هيئة العمليات المصرى وقتها، والجنرال الروسى، وكان من بين ما نقله للشاذلى عن الجنرال عبارة «كأنه بيبيع المية فى حارة السقايين»، عداها الشاذلى وقتها، لكنه بعد انتهاء اللقاء سأله: «إيه يا حضرة الظابط حكاية حارة السقايين دى؟! هم الروس يعرفوا الكلام ده؟»، فابتسم الشايب وشرح له أن ما قاله الجنرال ترجمته الحرفية هى: «لماذا تذهب إلى تولا ومعك ساموفارك؟»، وأن مدينة تولا مشهورة بصناعة الساموفار، وهو وعاء لصنع الشاى، وبالتالى فكلامه معناه: «لماذا تذهب إلى تولا ومعك وعاءك لصنع الشاى؟»، وقال له إنها عبارة شبيهة بقول الإنجليز: «لماذا تحمل الفحم إلى نيوكاسل؟».
أما الموقف الأطرف فقد حدث أثناء ترجمته خطاب الرئيس السادات فى يوليو ١٩٧٢، الذى أعلن فيه الاستغناء عن خدمات الخبراء الروس، وأراد أن يجامل الاتحاد السوفيتى قليلًا، فقال ضمن خطابه إنهم قاموا بالواجب وزيادة عند وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، وأرسلوا للعزاء وفدًا رفيع المستوى برئاسة كوسيجين، مضيفًا أن كوسيجين «جاء ومعه الصينية»، فكانت ترجمته للعبارة كالتالى: «كانت وقفة الاتحاد السوفيتى معنا أهل وأقارب»، ولأن المترجمين الروس سمعوا كلمة «الصينية» ولم يجدوها فى ترجمة الشايب، بدت على وجوهم الحيرة، خصوصًا مع توتر العلاقات الروسية الصينية خلال تلك الفترة، فشكوا أنه يخفى عنهم شيئًا، وانتظروا حتى نهاية الخطاب، وسألوه عن تلك الفقرة، فارتفعت ضحكته وهو يوضح لهم أن من عادات الفلاحين فى مصر إرسال الأهل والأقارب «صينية طعام» إلى عزاء قريبهم أو جارهم المتوفى، كنوع من المشاركة الوجدانية، وبالتالى فالمعنى المقصود بجملة الرئيس هو ما قاله من أنها كانت وقفة أهل.
والحقيقة أننى لم أعرف مترجمًا مخلصًا للمعنى الحقيقى للترجمة كما كان يفعل ذلك الرجل البشوش المحب لخلق الله كافة، يختار ما يترجمه بعناية فائقة، فلا تجد بين ما كتب وترجم كتابًا لا يحمل إضافة بالغة الأهمية للمكتبة العربية، سواء كانت تلك الترجمات فى حقول الأدب أم الفكر أم الفلسفة أم التاريخ، وربما لا يعرف الكثيرون أنه كان صاحب الدور الأكبر، إلى جانب الدكتور جابر عصفور، فى إنشاء المركز القومى للترجمة، الذى صدر قرار إنشائه فى أكتوبر ٢٠٠٦، وذلك رغم احتفاله «كمشروع» فى بداية نفس السنة بإصدار الكتاب رقم ألف، فقد بدأ العمل به فى ٢٠٠٣، ولكن «كمشروع»، وعمل الشايب طوال تلك الفترة منسقًا عامًا له، وبعد تعيين الدكتور جابر عصفور، رئيس المجلس الأعلى للثقافة وقتها، مديرًا للمركز فى مارس ٢٠٠٧، بقى الشايب فى موقعه منسقًا عامًا، إضافة إلى موقعه الجديد مساعدًا لمدير المركز، ومشرفًا على المكتب الفنى.
ربما لا تتسع المساحة للحديث عن الكتب التى ترجمها ذلك المثقف الكبير، ولا عن جمال شخصه، ورحابة صدره، وقدرته على استيعاب الجميع، من أصغر شاب فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، حتى أكبر مفكريها وكتابها، يقرأ لهم جميعًا، ولا يتردد فى إهدائهم نسخًا مجانية من كتبه «غالية الثمن غالبًا»، ولا يبخل على أى منهم برأى أو مشورة، حتى إننى أذكر أن أول لقاء لى به شخصيًا، رغم معرفتى المسبقة باسمه بالطبع، كان بعد صدور روايتى الأولى فى عام ٢٠٠٥، وكنت ما زلت فى بداياتى الأولى.
أذكر حميمية اللقاء جيدًا، والراحة التى شعرت بها تجاهه، ورحابة الصدر التى حدثنى بها عن روايتى، وفوجئت بقراءته لها، رغم مرور وقت قليل على صدورها، ظننت وقتها أنها بسبب جيرة المنشأ، باعتباره من مواليد مدينة البتانون التى تبعد مسافة صغيرة عن قريتى، «اتنين منايفة بيقابلوا بعض يعنى»، احتضننى وأثنى على ما قرأه فى الرواية، التى لم أكن قد أهديتها له بعد، ووعدته بالمرور على مكتبه لإهدائى ما يتوافر لديه من كتبه، ومن إصدارات «المشروع القومى للترجمة».
ومن مفارقات القدر أن يتوفى ذلك المثقف الكبير خلال مشاركته فى صالون ثقافى يتحدث فيه عن تجربته مع الترجمة بمدينة دمياط الجديدة، حيث داهمته أزمة قلبية شديدة، فتم نقله إلى مستشفى قريب، لكن روحه صعدت إلى خالقها قبل وصوله المستشفى.
لا أظن أننى انتهيت مما لدىّ عن الكاتب والمترجم والمثقف الكبير طلعت الشايب، وربما كانت لى معه وقفة أخرى، أرجو ألا يطول الوقت فى انتظارها، وأدعو الله أن يوفقنى فى إيفائه حقه، والكتابة عن دوره الكبير والفاعل فى مسيرة الثقافة العربية.