شجون الجنوب
منذ أن تكونت مصر- الدولة- فى نهايات القرن الرابع قبل الميلاد، أدرك حكامها أن حدودها الجنوبية لها أهمية خاصة؛ لكثير من الأسباب، أولها نهر النيل وثانيها تجارتهم التى بدأوها مع مناطق شمال السودان منذ قرون قبل ذلك التاريخ. وكما ذكرت فى الجزء الأول من هذه المجموعة من المقالات أن المصرى القديم، ومنذ ذلك التاريخ الموثق، ألزم نفسه بمبادئ أخلاقية عامة فى صياغة جميع قوانينه وعقائده وسياساته بالداخل والخارج. ولن نفهم أو نضع الأحداث التاريخية فى جنوب مصر موضعها الصحيح دون أن نعرف بصيصًا عن تلك المبادئ الأخلاقية وسبب تمسك المصريين تمسكًا فعليًا لا ظاهريًا بها.
العدالة والحق والصدق والنظام.. هذه هى أركان وأسس تلك المبادئ.. وعبّر عنها المصرى بكلمة «ماعت»! وسبب تمسك المصرى بها اعتقاده القديم بأن الإله رع هو أول من حكم مصر منذ ملايين السنين، وهو الذى جاء بهذه المبادئ والقوانين وطبقها فى البلاد وألزم بها كل من يحكم مصر بعده. ثم صعد رع إلى السماء وترك الحكم لملوك مصر بشرط تمسكهم بقوانين «ماعت»؛ لذلك كان كل منهم يحمل لقب «ابن رع»! لذلك جاء تمسك المصريين بهذه المعانى تمسكًا حقيقيًا لا ظاهريًا!
لذلك فحين بدأ المصريون فى تدشين أسس دولتهم ومفردات حضارتهم وعلومهم وحين احتاجوا إلى موادٍ خام غير متوافرة فى مصر، فقد قرروا الحصول عليها عن طريق التبادل التجارى العادل مع جيرانهم، خاصة فى الجنوب. فبعثوا البعثات التجارية برًا- عن طريق الحمير- ونيلًا عن طريق نهر النيل أثناء الفيضان. وأقاموا علاقات جوار قوية مع جيرانهم الجنوبيين تسودها مبادئ العدل والاحترام المتبادل والجنوح للسلام القوى، القائم على وجود قوة تحميه وهى قوة الدولة المركزية.
لمدة تقارب ألف عام- هى عمر الدولة القديمة من حوالى ٣٢٠٠ حتى ٢٢٨٠ ق. م- ظلت هذه هى مبادئ العلاقات حتى بدأت الدولة المركزية فى الانهيار وضعفت قوتها العسكرية الحامية لها ولعلاقاتها التجارية، فى حين بدأ حكام المقاطعات فى التناحر فيما بينهم وعمت الفوضى مصر فيما يعرف بعصر الانتقال الأول الذى استمر لما يزيد على قرنين. ركدت العلاقات التجارية وبدأت أولى محاولات التسلل الناعم من مناطق نائية إلى جنوب مصر؛ فسيطروا على مناطق كثيرة وشاركوا فى فوضى المشهد المصرى جنوبًا!
حين تدارك ملوك الدولة الوسطى الموقف وأعادوا منظومة «ماعت» لمصر، التى تحتوى على النظام والعدل والسلام القوى، قرروا تأمين حدود مصر الجنوبية بعدد كبير من القلاع والحصون، وتم تثبيت حدود مصر الجنوبية منذ حوالى ألفى عام قبل الميلاد فى نفس حدودها المعاصرة تقريبًا، وقرروا استئناف علاقاتهم التجارية المسالمة مع جيرانهم، لكن بشكل أكثر تنظيمًا وضمانًا لأمنها؛ فتم استخدام بعض القلاع الحربية كمراكز تجارية، وأشرفت تلك القلاع على التجارة. وكانت التجارة الأكبر والأهم مع مملكة «كرمة» فى شمال السودان.
لم يعتبر المصريون علاقاتهم مع جيرانهم مجرد علاقات تجارية نفعية، إنما علاقات ودية يوحد بينها نهر النيل وبعض العقائد الدينية المصرية التى وجدت طريقها للجنوب. هذا الاعتقاد هو ما صدم المصريين بعد أن احتل الهكسوس مصر، وبعد أن بدأت عائلة قوية تحكم مدينة «واست» أو الأقصر فى حرب التحرير ضد الهكسوس. فقد صدمت المصريين فكرة وجود تعاون تجارى بين جيرانهم الجنوبيين وبين الاحتلال الأجنبى. وهذا ما دفع ملوك هذه العائلة وبعد أن أتموا حرب التحرير أن يغيروا سياستهم جنوبًا فانتقموا من حلفائهم السابقين وقرروا- للمرة الأولى بعد أكثر من خمسة عشر قرنًا من السلام- أن يؤمنوا حدودهم الجنوبية بضم مناطق خارج الأرض المصرية، وهو ما يعرف بعصر المملكة المصرية أو الدولة الحديثة التى استمرت لمدة خمسة قرون. فى هذه القرون تمصرت أجزاء كثيرة من تلك المناطق وبنيت معابد مصرية ما زال بعضها قائمًا لليوم!
بعد هذه القرون الخمسة عادت حدود مصر إلى ما كانت عليه، وهى حدودها المعاصرة تقريبًا، ولم يفرط حكام مصر عبر القرون فى علاقاتهم الوثيقة مع الجنوب، رغم بعض الأحداث العارضة فى بعض الفترات. فقد استمر حكام مصر فى العمل على ضمان علاقات ودية مع حدود آمنة مستقرة جنوبًا حتى العصور الحديثة.
ولقد فطنت القوى الاستعمارية الحديثة والمعاصرة جميعًا إلى تلك العلاقة الخاصة وحاولت كثيرًا ضربها بعدة طرق ووسائل فشلت حتى الآن!
فى الآونة الأخيرة تلاقت مصالح أطراف كثيرة دولية وإقليمية لمحاولة زعزعة استقرار مصر جنوبًا بعد فشل الفكرة شرقًا! سبقت المشاهد النهائية مشاهد تحضيرية لسنوات.. تداخلت فيها مؤسسات دولية من المفترض أن تكون علمية بمطبوعات تريد حرق حالة التكامل الراسخة عبر القرون وخلق حالة تناحر أكاديمى بين حضارتين تعايشتا معًا لآلاف السنوات! أشعلت فتيلًا، منذ عدة عقود ماضية، ثم رأت أنه قد آن الأوان للنفخ فيه ليستحيل نارًا تلتهم قرون الأخوة السابقة!
مؤسسات علمية تنشر مطبوعات ومؤسسات اقتصادية تستثمر فى ضرب العلاقات، وأخرى مخابراتية تحاول استغلال الأوضاع- التى ربما ساهمت فى خلقها- باستبدال مخطط الشرق بآخر جنوبى! ومؤسسات ترفع لافتات مؤسسات حقوقية تطل بوجوهها الكالحة كلما طُلب منها ذلك، وبعد أن فقدت تجارتها القديمة بالدفاع عن إرهابيين تحاول الضغط على مصر ببضاعة جديدة اسمها نشطاء اللاجئين! حقًا ما أوقحكم!
السير فى حقل ألغام ونيران ملتهبة.. التفرقة بين شعيرات فاصلة كالأنصال الحادة بين ضرب تلك المخططات والحفاظ على علاقات جيرة مصيرية، وبين الحفاظ على مقدرات المصريين المادية والفكرية وهويتهم! هذا هو قدر من يتولون مسئولية مصر الآن!
فى يوم ما ستقرأ أجيال أخرى تاريخ هذين العقدين المعاصرين من تاريخ مصر قراءة كاملة غير منقوصة كما قرأنا نحن ما سبق!
سوف يقرأون القصة كاملة عن حقل الألغام الذى سارت فيه مصر منذ عام ٢٠١١م! وأنها كلما أبطلت مفعول لغمٍ وجدت تحت أقدامها آخر وثانيًا وثالثًا! سيقرأون القصة كاملة وهم يتأملون خارطة برنارد لويس المجنونة لدول المنطقة، من بينها مصر!
سيعرفون أنه وبعد أن أحبط المصريون رسم الخريطة بدءًا من الشرق ودفعوا ثمن ذلك دماء واقتصادًا، وجدوا رأس الحربة وقد اتجهت جنوبًا! لكن أهل الجنوب يدركون ذلك جيدًا كما يدركه المصريون وسيقومون معًا برد كيد الكائدين فى نحورهم.. لكن بالقطع بعد دفع الثمن كاملًا!
ستقرأ تلك الأجيال عن خطة «التهام مصر» اقتصاديًا التى حاولت الشركات الأخطبوطية التى تمتلك وتتحكم فى اقتصاد العالم فرضها على مصر مستخدمة أسلوبًا قديمًا عفا عليه الزمن وسبق استخدامه فى عصر الخديو إسماعيل!
ستقرأ تلك الأجيال أن جيلًا من المصريين قد كتبت الأقدار عليه أن يصل بمصر إلى بر الأمان عبر السير خلال تيه حقل الألغام، وأن هذا الجيل قد حفظ الأمانة وبذل كل غالٍ فى سبيل ذلك. وأن هؤلاء تقبلوا أن يُقذفوا بالحجارة فى صمتٍ وهم يعملون لإتمام مهمتهم!
حافظوا على شرف مصر وأخلاقها، فاستضافوا وأغاثوا الملهوفين والباحثين عن الأمن والأمان؛ ليسطروا صفحة جديدة من تاريخ مصر الشريفة!
وأنهم فعلوا ذلك بعد استيعاب تاريخ مصر.. ففعلوا ذلك دون تفريط فى حق مصر وهويتها ومقدرات شعبها.. فقاموا بما تفرضه عليهم هذه المعانى بعد أن استتب الأمن فى بلاد الخائفين فأعادوهم لأوطانهم سالمين آمنين مطمئنين دون أن يخضعوا لابتزازاتٍ لن نعرف نحن عنها شيئًا الآن!
ستقرأ أجيالٌ لاحقة أن الأقدار كتبت على هذا الجيل ممن يتولون أمر مصر أن يواجهوا فى بضعة عشر عامًا جملة من الأخطار والتحديات كانت تواجهها حكومات وإدارات فى عقودٍ طويلة ممتدة.. مواجهات عسكرية شرقًا.. محاولات تفكيك داخلية قائمة على أيديولوجيات دينية.. تهديدات بالعبث بالحدود جنوبًا.. الضغط بالاقتصاد ومحاولة إفلاس الدولة بالضغط الاقتصادى عليها وابتزازها من دول وشركات كبرى.. تنفيذ مشروع للعبث بمياه مصر تم تخطيطه للمرة الأولى منذ عقود على أيدى خبراء رسميين للعم سام..!
ستقرأ تلك الأجيال القصة كاملة.. وربما ساعتها سوف تقوم بإنصاف من ساروا بمصر فى هذا الحقل الملتهب، الذين لم ينصفهم المعاصرون لهم!