محمد الباز يكتب: أبواب القرآن (5).. ماذا قدم المفسرون العلمانيون للقرآن الكريم؟
فى الوقت الذى نناقش فيه شروط من يتصدون للتفسير، نجد من يدخلون إلى مساحة الدراسات القرآنية والتفاسير من خلفيات مدنية، لم يدرسوا دراسة دينية منهجية، وهؤلاء لهم إسهاماتهم، كما تعرضوا لانتقادات عديدة، وهؤلاء سيكونون موضوعًا للنقاش بينى وبين الدكتور محمد سالم أبوعاصى أستاذ التفسير بجامعة الأزهر.
■ الباز: هل توافقنى يا دكتور على توصيف «المفسرين العلمانيين»؟
- أبوعاصى: أولًا لا بد من تحديد أمرين، الأول نحدد ما معنى علمانى؟ وما معنى مفسر؟ وأنا قرأت لك عبارة فى كتابك «إمام التفكير.. زيارة جديدة لنصر حامد أبوزيد» قلت إن الدكتور نصر كان يريد دخول قسم الفلسفة، لكنه تراجع وقال إنه لا يوجد فى القسم فلاسفة ولكن مدرسين فلسفة، وكما يوجد هذا الفرق، فهناك فرق بين المفسر ومدرس التفسير، فرق بين النحوى ومدرس النحو.
المفسر هو من يملك ملكة التفسير، ولو ضربنا المثل بالرجل المثال وهو الإمام محمد عبده، لم يكن يقرأ كتب التفسير، كان بيده معجم لغوى وكتاب الله فقط، وكان يفسر بالملكة العلمية واللغوية والبلاغية وقراءاته فى التاريخ وثقافته العامة.
مدرس التفسير يقرأ تفسير الآية فى كتاب أو اثنين أو ثلاثة من كتب التفسير، يخرج المعانى، ويبدأ يقول للطلاب أو للناس ويقول لهم التفسير الموجود، لكن المفسر هو الذى يبدأ من الكتب ومن الملكة العلمية وينتهى إلى التجديد وإلى الآراء التى كما قلنا تناسب الناس، فهل من نتحدث عنهم هنا مفسرون أم ناقلو تفسير؟
إنه تفسير اعتنى كثيرًا بالبلاغة القرآنية، فالشيخ الشعراوى- مثلًا - خريج لغة عربية، دارس بلاغة كويس وعنده ثقافة شعرية وثقافة لغوية وبيقرأ فى هذا ويروح يطبق ويقول للناس التفسير اللى موجود، المفسر هو الذى يبدأ من الكتب ومن الملكة العلمية ثم ينتهى إلى التجديد وإلى الآراء التى كما قلنا تناسب النفس، فهل اللى كتبوا دول مفسرين ولا دول ناقلو تفسير، دى نقطة.
الأمر الثانى ما معنى علمانى؟ هل هو علمانى بالمفهوم الشائع أنه رجل يريد أن يفصل كما يقولون الدين عن الدولة وعن المجتمع أحيانًا؟ أم كما يتحدث الدكتور عبدالوهاب المسيرى عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، فيكون لدينا علمانى ملحد، وهنا كيف يقوم ملحد بالتفسير؟ أم كما كان يذهب الدكتور حمدى زقزوق أن العلمانى يعنى رجل يقدر العلم والثقافة والواقع.
■ الباز: علمانى بهذا المعنى نسبة إلى العلم إذن.
- أبوعاصى: أيًا كانت نسبة الكلمة، لكننا نريد أن نحدد المفسر العلمانى ناقل للتفسير أم يمتلك ملكة التفسير، وعلمانى هل لأنه يقدر العلم أم لأنه ضد الدين؟ إذا كان ضد الدين فليس مقبولًا أن يفسر القرآن لأنه سيطعن فيه.
وعندما نأتى للمفسرين المعاصرين، أنا لا أميز بين أزهرى وغير أزهرى فى العلم، المقياس عندى هل تتوافر الشروط فى المفسر أم لا.
■ الباز: هل معنى ذلك أنه ليس شرطًا فيمن يتصدى لتفسير القرآن أن يكون أزهريًا؟
- أبوعاصى: الأهم عندى أن يكون ملمًا بأدوات التفسير، وأنا أذكر أننى قرأت تفسيرًا لسورة العلق كتبه الدكتور زكى نجيب محمود كان رائعًا، وهو ليس أزهريًا.
■ الباز: ما الذى يجعلك تصف تفسير زكى نجيب محمود بأنه رائع، ما الملامح التى دفعتك إلى قول ذلك؟
- أبوعاصى: الملمح الأول أن الرجل ليس نقالًا، وليس تقليديًا، يعنى لم يأت بالسورة ويقول لك ابن كثير قال، والطبرى قال، والقرطبى قال، لقد قام بالتفسير على طريقة محمد عبده مع اتساع فى اللغة والفلسفة، عالم يطبق النظريات اللغوية والنظريات الفلسفية والمنطق فى تفسير السورة.
ففى تفسيره مثلًا لـ: «اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم»، تساءل: لماذا كرر كلمة «اقرأ مرتين»، وقال فى «اقرأ» الأولى التى هى «باسم ربك الذى خلق» معناها اقرأ الكتاب المنزل، وفى «اقرأ» الثانية التى هى «وربك الأكرم الذى علم بالقلم»، معناها اقرأ الكون الذى تعيش فيه.
■ الباز: اللفظ واحد إذن وهو «اقرأ»... لكن المعنى مختلف.
- أبوعاصى: نعم.. وهناك عبارة شائعة تقول إن الكون والنفس قرآن صامت والكتاب المنزل قرآن ناطق، وكلاهما من عند الله، وكلام الدكتور زكى نجيب محمود كان كلامًا علميًا منطقيًا وهو ليس أزهريًا، لكنه ضالع فى علوم الفلسفة وعلوم اللغة.
فالعبرة ليس بكون المفسر أزهريًا أو غير أزهرى ولكن بهل هو ملم بالأدوات التى تمكنه من التفسير أم لا، فلا معنى لأن يأتى مفسر أيًا كانت خلفيته وينقل ما فى الكتب، ابن خلدون له عبارة فى المقدمة يقول فيها «كثرة التأليف أفسدت العلم».
■ الباز: هناك أمثلة معاصرة، عندك مثلًا الدكتور مصطفى محمود كانت له كتابات فى التفسير أثارت عاصفة من حوله وردودًا عليه، كتب «القرآن محاولة لتفسير عصرى» ثم غيّره إلى «القرآن محاولة لفهم عصرى»، تعاطى الدكتور مصطفى محمود كيف تراه؟
- أبوعاصى: أنا قرأت معظم ما كتب الدكتور مصطفى محمود قديمًا، وأسلوبه كان أدبيًا، وفى أخريات حياته طغت عليه الروحانيات وأصبح رجلًا متصوفًا، وأنا لا أستطيع أن أقول إن كل كلامه خطأ، ولا أستطيع أن أقول إن كل كلامه صحيح، لديه آراء جيدة ومفيدة فى التفسير، وعنده آراء غير مقبولة كذلك، لكن الملاحظة عليه أنه أحيانًا ما كان يخرج عن اللغة وسياق الآيات وعن الإطار العام للقرآن.
وللدكتور مصطفى محمود بعض الآراء التى فيها نظر، فأذكر أنه قال مثلًا إنك عندما تنظر إلى المرأة وهى تسير فى الشارع فأنت تنظر إلى خلق الله فى الجمال، وإذا كانت المرأة جميلة فلا بد أن تتغزل بها، وهذا طبعًا لا يساعده السياق ولا يدعمه الإطار العام للإسلام، ولديه مشكلة أخرى فقد جنح كثيرًا بالقرآن إلى النظريات العلمية، وكما قلنا النظريات متغيرة، ثم إنه لم يقدم تفسيرًا كاملًا للقرآن بحيث نستطيع أن نقول إنه فى تفسيره استطاع أن يبدع أو أن يأتى بجديد، فما فعله كان محاولة فيها ما هو مقبول وفيها ما هو مردود عليه.
■ الباز: لدينا نموذج آخر يظهر فى كتابات الدكتور عبدالرازق نوفل، وكانت مؤسسة أخبار اليوم تصدر كتبه فى رمضان من كل عام، وكان يتحدث عن معجزات القرآن العلمية، وهو أيضًا من خلفية مدنية، كيف تقيّم إسهامه ذلك؟
- أبوعاصى: دعنا أقول إن حاجات وضغوط العصر هى التى دفعت الدكتور نوفل وغيره إلى أن يقوموا بالكتابة فى التفسير بغرض تسهيله وتبسيط المعلومات القرآنية للجماهير العامة، ويجب أن أعترف بأن المفسرين الأزهريين فى العصور الأخيرة لم يستطيعوا فى الغالب الأعم أن يخرجوا من عباءة المفسرين القدامى، يعنى إلى الآن المشتغل بالتفسير يردد قال القرطبى وقال الرازى وقال الألوسى وقال البيضاوى، يعيشون فى القالب الكلاسيكى القديم، لا يستطيعون النزول إلى المجتمع، وعندما نزل الشيخ الشعراوى إلى المجتمع واستخدم لغة عامية بسيطة اقترب منه الناس بشكل كبير.
المفسرون المدنيون حاولوا الوصول إلى الناس فبسطوا المعانى القرآنية، لكن يبقى الحكم عليهم هل يملكون ملكة التفسير أم لا، هم قرأوا الكتب السهلة المعاصرة لمحمد عبده وفريد وجدى وعبدالجليل عيسى وبدأوا يكتبون ويبسطون المعلومات.
والسؤال الذى نحتاج إجابة عنه: هل الكتب التى كتبوها فيها جديد فيبقى أثرها فى المجتمع، أم سيتبدد ما فعلوه؟ يعنى الآن عندما تسأل الناس هل يتذكرون ماذا كتب هؤلاء؟ هل يتذكرون شيئًا؟
■ الباز: ما الذى تراه أنت؟
- أبوعاصى: يمكن أن يتذكر الناس ما كتب هؤلاء إلى فترة من الزمن، لكن لن يكون لهم أثر ممتد فى تغيير العقول أو فى تأسيس فكر جديد، فلن يبقى إلا ما يكون له أثر تتوارثه الأجيال، فكم من كتاب كُتب ومات قبل أن يموت صاحبه، وكم من كتاب رحل مؤلفه من مئات السنين، ولا يزال موجودًا بين الناس، وهنا نذكر كتابات عبدالقاهر الجرجانى فى «دلائل الإعجاز»، لا يزال هذا الكتاب يعيش إلى الآن، و«أصول الفقه» الذى كتبه الشاطبى بلغة سهلة لا يزال يعيش إلى الآن أيضًا، والكتابات الجديدة إذا كان فيها إبداع فستعيش، بصرف النظر هل أنت متفق مع ما فيها أم مختلف معه.
■ الباز: اسمح لى أن نصل إلى المدرسة المعروفة بمدرسة الدراسات القرآنية التى تتجلى أكثر فى أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة ونذكر منهم أمين الخولى ومحمد أحمد خلف الله وشكرى عياد وأخيرًا نصر حامد أبوزيد.. وهم امتداد للدكتور طه حسين... كيف ترى إسهام هؤلاء؟
- أبوعاصى: هذه مدرسة مختلفة، باختلاف مَنْ ذكرتهم، يقف على قمتهم طه حسين الذى كان ينوى حضور دروس الشيخ محمد عبده مع شقيقه، إلا أن الإمام لحق بربه، وحزن طه حسين لذلك حزنًا شديدًا.
لم يكتب طه حسين تفسيرًا للقرآن، لكنه كتب «فى الشعر الجاهلى» وبدأ يشكك فى قضية الشعر الجاهلى وأنه منحول، وأنه وُجد بعد الإسلام، فقامت عليه الهوجة، ورد عليه كثيرون منهم محمود شاكر والخضر حسين وفريد وجدى، فقد فهموا أنه بما جاء به يريد أن ينفى إعجاز القرآن، وقد عدل طه حسين بعد ذلك، لكن يبقى أنه كتب وهناك من ردوا عليه.
يردد البعض أنه كان يقول إن قصة إبراهيم وإسماعيل من تأليف محمد- صلى الله عليه وسلم- ليتودد إلى اليهود فى المدينة، لكن هذا النص ليس موجودًا فى الشعر الجاهلى، وسمعنا مثلًا أنه قال لو كان معى قلمًا أحمر لصححت القرآن، وهذا أيضًا غير صحيح، طه حسين له كتاب اسمه «فى النثر»، وكتب فيه أنهم سألوه: هل القرآن شعر أم نثر؟، فقال لا هو شعر ولا نثر، هو قرآن، يريد أن يقول إنه فوق الشعر وفوق النثر، لا يدانيه هذا ولا ذاك، بل هو فوق هذا وفوق ذاك.
وفى هذه المدرسة جاء بعده أمين الخولى، وكان تلميذًا للإمام محمد عبده، وفى كتابه التجديد تحدث بالتفصيل عن المجددين فى الإسلام، وكان يتحدث عن تجديد البلاغة وتجديد النحو وتجديد الشعر، وتحدث أيضًا عن تجديد التفسير، وقد حاول أن يسير على نهج محمد عبده، وإن كان اختلف عنه بعض الشىء.
فمحمد عبده مثلًا كان يعارض المفسرين القدماء فى تفسيرهم لكلمة الفرقان، فبينما كانوا يرون أن الفرقان هو الكتاب المنزل من الله الذى يفرق به الله بين الحق والباطل، كان يرى هو أن الفرقان هو العقل، وهو تفسير مستساغ بالمناسبة، لكن أمين الخولى قال إننا لو تعاملنا مع الفرقان على أنه العقل، فإننا بذلك يمكن أن نستغنى عن الوحى.
وعندما قرأت هذا الكلام منذ سنوات كتبت تعليقًا على ما قالوا بأننا يمكن أن نوفق بين الرأيين، فالوحى يقودنا إلى الهداية والعقل يقودنا أيضًا إلى الهداية، لأننى من خلال العقل أستطيع أن أفهم مضامين الوحى، فربنا أنزل لنا الوحى وأعطانا العقل، وأمرنى أن أستفيد بهما فى الهداية.
■ الباز: لا يوجد أى تناقض بين التفسيرين إذن.
- أبوعاصى: لا يوجد تناقض على الإطلاق، فالعقل يكمل الوحى فى هدايات الناس، لكن مشكلة مدرسة الدراسات القرآنية التى أشرت إليها من وجهة نظرى أنها لم تكن لها رؤية.
■ الباز: هذا ما كنت سأسألك عنه، فهذه المدرسة ولها اعتبارها ومن عملوا فيها باحثون جادون وعندهم أدواتهم المنهجية، لكن هناك من يعتبر ما فعلوه تجاوزًا فى حق القرآن.. هل تجاوزوا بالفعل فى حق القرآن الكريم؟
- أبوعاصى: يجب أن نعتبر أننا نعانى من مشكلة نفسية، فمثلًا تجد أن أى شىء يصدر من أى عالم مستشرق فى الغرب أو من أى مفكر هنا فى الشرق نعتبره مؤامرة على الإسلام، وأنه ضد الدين، وأن من يقومون بذلك ليسوا إلا أبواقًا للغرب، وهو كلام ليس دقيقًا على إطلاقه، ويجب أن ننتبه إلى ذلك.
■ الباز: ما الذى تأخذه عليهم أنت يا دكتور؟
- أبوعاصى: لا يوجد ما نأخذه عليهم بالمعنى العام، فكل من يأتى بجديد، يجد من يعترض عليه ويرفضه ويحتج عليه، وهو ما حدث مع الإمام محمد عبده نفسه، فما قدمه كان مرفوضًا من المدرسة الأزهرية التى كانت لها سطوة فى المجتمع، وبالتالى كان مرفوضًا من المجتمع، ولم يتقبل الناس ما قدمه محمد عبده إلا بعد رحيله بسنوات طويلة.
■ الباز: هل يمكن أن يأتى زمن ويتقبل الناس أفكار مدرسة الدراسات القرآنية؟
- أبوعاصى: أعتقد أن هذا يمكن أن يحدث، فأفكار محمد عبده لم يتقبلها الناس إلا بعد خمسين عامًا، بل كانوا يشوهون ما قال، فعلى سبيل المثال كان هناك من يقول إن الإمام محمد عبده قال فى تفسيره لـ«الطير الأبابيل» التى جاءت فى سورة الفيل، أنها الجراثيم، وقد وقعت أنا أيضًا فى هذا الفخ، لكن وأنا أدرس فى الماجستير تأكدت أن الإمام محمد عبده لم يقل بذلك مطلقًا، وأعلنت أنه برىء من ذلك، لكن من فعلوا ذلك كانوا يريدون تشويه ما قدمه من تفسير لم يكن يروق لهم.
■ الباز: اسمح لى أن نأخذ الحديث إلى مساحة أخرى، فهناك قضية مهمة وأحدثت الكثير من المشكلات، وهى نزع آيات القرآن من سياقها وتفسيرها بما لا تحتمله.