الدكتور أحمد بلبولة: الحضارة الإسلامية لم تنفصل عن الفن ومكة كانت بها دار للغناء
كشف الدكتور أحمد بلبولة، عميد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، عن أن الكلية ستطور المناهج التعليمية لتضم دراسة أدب العامية وكذلك التعمق فى تدريس الدراما، لكى تكون «دار العلوم» المُصدّرة للفن الذى يحمل رسالة.
وأضاف «بلبولة»، خلال حواره مع الإعلامى الدكتور محمد الباز خلال برنامج «الشاهد» على قناة «إكسترا نيوز»، أن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية، لم يحصل على ليسانس كلية دار العلوم، بل حصل على دبلومة فقط.
وحكى عن طالبة قالت له: «لو كان أبوبكر حيًا لقتلك»، لأنه بدأ المحاضرة بمناقشة أغنية، مؤكدًا أن الحضارة الإسلامية لم تنفصل أبدًا عن الفن ومكة كانت بها دار للغناء.
و«بلبولة» شاعر وأكاديمى وناقد أدبى تخرج فى كلية دار العلوم وعمل بها معيدًا بقسم الدراسات الأدبية عام ١٩٩٨، وتدرج بالمناصب حتى شغل منصب أستاذ بقسم الدراسات الأدبية.
كما عمل أستاذًا بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية بكوريا الجنوبية منذ عام ٢٠٠٩ حتى ٢٠١٩، وشارك فى العديد من الأمسيات الشعرية والندوات والمهرجانات التى حضرها كبار شعراء مصر والعالم العربى. صدر له العديد من دواوين الشعر منها «هبل» فى عام ٢٠٠٤، و«طريق الآلهة» فى عام ٢٠١٠، إضافة لرواية «سيرة الخريف والربيع» عام ٢٠١٨.
حصل على عدة جوائز، أبرزها جائزة الدولة للتفوق، كما حصل على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الفكرى والأدب، التى تمنحها جامعة القاهرة للقامات الفكرية والأدبية الكبيرة بالجامعة، وجائزة مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن أفضل ديوان شعر. شغل منصب عضو المجلس الأعلى للثقافة فى لجنة الدراسات الأدبية واللغوية منذ عام ٢٠١٧ حتى ٢٠١٩، وشارك بالإشراف والمناقشة فى عدد كبير من الرسائل الأكاديمية فى الدراسات الأدبية والنقدية فى عدد من الندوات فى مصر وخارجها.
■ بداية.. كيف جرى استرداد دار العلوم بعد اختطافها وخروجها عن مسارها؟
- لم تكن كلية دار العلوم وحدها المختطفة، بل مصر كلها، لكن هذا عارض وليس الأصل؛ فعندما نراجع تاريخ دار العلوم، وهذا العام نحتفل بمرور ١٥٠ عامًا على تأسيسها، نجد أن قادة التنوير خرجوا منها، وهم أعلام أناروا الأرض فى كل أنحاء العالم.
على سبيل المثال، فإن مبتكر الدراما المصرية طاهر أبوفاشا، من خريجى الكلية، وهو عقل استطاع أن يخترع مجالًا فى الدراما قبل ظهورها بالتليفزيون وعكف على «ألف ليلة وليلة»، وقدم وجبة للمصريين والعرب أصبحت تيمة من التيمات المصرية.
«أبوفاشا»، اختار شخصية شهرزاد لتتحدث باللغة العربية الفصحى، وحتى «الديك»، هو من اخترعه، وهو أيضًا تيمة مصرية.
كما تخرج فى كلية دار العلوم، الشاعر محمود حسن إسماعيل، الذى خرجت من عباءته الحداثة المصرية، ويكاد يكون هناك إجماع على أستاذيته.
من معالم الكلية أيضًا: الشعراء محمد الفيتورى وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى ومحمد عفيفى مطر والكاتب محمد عبدالحليم عبدالله.. ونجيب محفوظ كان يتحسس متى ينشر «عبدالحليم» روايته.
والدكتور إبراهيم أنيس كان يدرس علم اللغة، وهى علوم استوفدها أبناء دار علوم، وبفضلهم أصبحت جزءًا من البناء المصرى الكبير.. وهناك المؤرخ أحمد شلبى، وهو أستاذ فى التاريخ وكان مراجعًا لمسلسل «لا إله إلا الله»، وأيضًا الدكتور أحمد هيكل، وزير الثقافة الأسبق.
■ ما ردك على مَن يرون أن كلية «دار العلوم» مرتبطة تاريخيًا بتخريج عناصر من جماعة الإخوان الإرهابية؟
- هناك أقاويل عن أن حسن البنا، مؤسس الجماعة، خريج دار العلوم، لكن عندما رجعنا للوثائق والتاريخ وجدنا أنه حصل على دبلومة دار العلوم، ولم نجد أى أوراق تؤكد أنه حصل على ليسانس منها، ولدينا ما يثبت ذلك، ولكن لماذا نتوقف أمام مؤسس هذه الجماعة من دار العلوم ولم نتوقف أمام التنويريين الذين كانت لهم أدوار قيادية؟
■ كيف تسربت هذه التيارات للكلية؟
- دار العلوم بدأت حينما كانت مصر تحاول بناء الهوية وتأسيسها، وهذه التيارات بدأت تتسرب ليس لدار العلوم وحدها، إنما كان الهدف أكبر والمستهدف مصر، لكن يظل هذا فى نطاق العارض وليس الجوهر، فمصر جسد عظيم تأتى إليه هذه العوارض وتزول، ولكنها تعود لوجهها الأنصع لأنها صاحبة حضارة عريقة.
■ كيف تغيرت «دار علوم» منذ التسعينيات حتى الآن؟
- التحقت بكلية دار العلوم وأنا ابن «الفراغ» فى التعليم، وكنت أمتلئ بهؤلاء الدعاة من هنا وهناك، والذين يقتنصون الناشئة، وما أنقذنى هو قصور الثقافة فى دمياط، هى البذرة التى غرست فى أعماقى وروحى وغذاها الأساتذة، ونفضوا عنى غبار هذا الفراغ كاملًا وتحسست للمعرفة والإيمان بالعقل وجذور التعليم من أصوله.
تعلمت التحقق فى كل ما يدور حولى، وفى دار العلوم كان من حظى أن أشهد الاحتفالية بمرور ١٠٠ عام على تأسيسها، وحضرت أمسية شارك فيها فاروق شوشة، وهو من أبناء الكلية، هذا الصوت الجميل فى قرى ومدن مصر، وكان حالة شعرية وإعلامية خاصة.
دخلت القاعة، وكان يلقى قصيدة عن نهر النيل، ويصفه بأنه شيخ يمر بين الموسكى والعتبة، وهذه المفردات التى غذتنى وحين دخلت المكتبة وجدت الإصدارات الحديثة للكتاب. حينما كنت طالبًا بكلية دار العلوم، دخلت محاضرة الشريعة، فوجدت محمد البلتاجى، وهو فقيه، وكان عميدًا لدار العلوم، «البلتاجى» كان يلقى بيتين من قصيدة الأطلال، وتحدى الطلاب فى معرفة اسم الشاعر، ووقفت وقتها وقلت له إنى أعرفه، فطلب منى الإجابة، ورددت عليه بأنها للشاعر إبراهيم ناجى، فسعد بذلك.. قاعة الدراسة بدار العلوم فى التسعينيات كانت مختلفة، والطلاب كانوا يأتون ليتعلموا ويتغيروا.
والمعارك الفكرية تفتح آفاقًا كبيرة للبحث والنشاط، وهى علامة حيوية للثقافة، وكنت أحضر المناظرات بمعرض الكتاب، كما شاركت بمناظرة بين محمد أمين العالم ومحمد البلتاجى فى روزاليوسف، لأننا بحاجة دائمة لذلك.
■ ما تفاصيل خلاف نصر حامد أبوزيد وعبدالصبور شاهين؟
- جرى تشكيل لجنة من أساتذة جامعة القاهرة، لمنح نصر حامد أبوزيد درجة الأستاذ، بينهم الدكتور عبدالصبور شاهين، الذى اتهم فى تقريره نصر حامد أبوزيد بالكفر، لأنه كان يناقش علاقة الدين بالتاريخ ويطرحه على المجتمع.
وموجود فى كل وقت بعض المفكرين الذين سيصدمونك حين يقفون أمام مسألة، هى فى نطاق الخلاف الفكرى، ولقد رفع شاهين قضية ضد أبوزيد، ولم ترفعها دار العلوم.
محمد البلتاجى درّس بحثًا فى هذا الموضوع عن الإمام الشافعى، وتصدر المقال بقوله: «هناك فرق كبير بين الرأى وغير الرأى.. الرأى لا بد من أن ينطلق من حيثيات وإتقان لعلوم الآلة». ولكى تفهم عن النص لا بد من أن تجيب علوم هذه الآلة، ومن هنا لم تكن من حسنة فى هذا الموضوع إلا دراسة هذا المقال، وأن أتعلم كيف يكون لى رأى له أسانيد.
وانحصرت المسألة وراجعناها وتم فتح أبواب للمعرفة، لأننا لا نريد مجتمعًا خاملًا، ولكن نريد حراكًا.. أما ما حدث فكان شيئًا محزنًا وأنا أختلف مع الدكتور عبدالصبور شاهين.
■ نحن أمام مؤسسة مرت ١٥٠ سنة على تأسيسها، ولها دور كبير جدًا فى اللغة العربية وآدابها وعلوم القرآن، ومواجهة التطرف والإرهاب لا تمكن أن ينجح إلا بالوعى، ما مفهومك الخاص بالوعى؟
- الوعى لا يحدث بالمعرفة فقط، وإنما بمجموعة من الإجراءات مجتمعة، بمجرد صدور قرار بإعمال دار العلوم، أُسس مركز الإبداع، وأنا مؤمن بأن الفن هو القادر على صنع الوعى وتطويره بطريقة صحية؛ فعازف الموسيقى أو الشاعر لا يمكن أن يكون عنيفًا، وهو فى تدينه سمح خال من التشنجات.
لو قلنا من أين نبدأ طريق الوعى؟ سأظل أراهن على أن الفن هو الطريق، أطمح وأحلم لدار العلوم أن يكون فيها برنامج عن كتابة السيناريو والدراما، أن تسد هذا الفراغ، وأن تسهم دار العلوم، وأبناؤها فى بداية المرحلة الدرامية الثانية، ولا بد من أن نبدأ الطور الثانى من أطوار الدراما، ولتكن دار العلوم هى البادئة فى الطور اللاحق.
هذا بالنسبة للبرنامج التعليمى، أما على مستوى الفعاليات المختلفة، فقد شاركت فى ندوة تتحدث عن الإنشاد الدينى وياسين التهامى، وفوجئت بأن أساتذة جامعة عالمين بهذا الجانب، وناقشوا الكتاب وكانوا متيمين بياسين التهامى، وكانت ندوة فارقة.
نحن بصدد تحديث لائحة الليسانس فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، لربط الكلية بالفن، فالبرنامج التعليمى الذى استمر لمدة ١٥٠ سنة فى الكلية، مرت عليه تشوهات كثيرة، واجتهادات، وعدنا بالبرنامج لأصله الصافى، واستحدثنا مقررات، منها مقرر كتابة السيناريو والدراما، ومقرر أدب العامية.
■ فى السنوات الماضية، كانت دار العلوم تنتصر للقصيدة الفصيحة، من ناحية أنها أبقى للتاريخ وأخلد وأطول عمرًا، لكن لدينا شعراء فى العامية عظام، والعامية فى فترات سابقة كانت تُدرس فى قسم علم اللغة فى اللهجات، ولدينا رسائل أكاديمية مكتوبة عن تفصيح العامية، لكن دراسة الفن الذى كتب بالعامية غابت عن دار العلوم، لذا أتساءل كيف تغيب عن دار علوم دراسة الأغنية المصرية بكل عطائها؟
- لا توجد أى دراسة، وأكاد أجزم أن كليات الآداب ليس فيها هذا الأمر، أما القصائد المغناة فهى تدرس، مثل قصائد لأم كلثوم وفيروز وعبدالحليم حافظ، ممن غنوا القصيدة الفصيحة، لكنه ليس كافيًا، لا بد من أن تنفتح على اللغة وتموجاتها، والعامية من تموجات اللغة، ليست بديلًا عن الفصحى، نريد عقلنة هذه الفنون، وأن تسهم دار العلوم فى أن تعود بالأغنية للمستوى المقبول، فنحن جيل بلا مطرب، يمثل ثمرة الحضارة، أم كلثوم لم تأت من فراغ، وإنما الثقافة المصرية والحضارة المصرية.
نريد أن نعود إلى فكرة القصيدة الوطنية التى عندما نستمع إليها نشعر بالجلال وتهتز أعماقنا، نريد أن نسهم فى الرقى بالفن والعودة بالفن إلى ما كان عليه، يؤسفنى أقول لك إن الدولة فى هذا العصر سابقة للثقافة، رغم رطانة النقاد الذين تحدثوا عن الحداثة، لم يستطيعوا أن يهيئوا المجتمع إلى تقبل الحداثة وما بعد الحداثة، وإنما انتقلنا للحداثة صدفة كمزاج عام للعالم، والذى نقل الدولة الآن إلى ما بعد الحداثة هو ما نشهده من بناء وتطور مذهل فى مصر، العاصمة الإدارية على سبيل المثال حالة ما بعد حداثية.
الدولة تسبق المثقفين، وانتبهت لملف الدراما، وتراجع نصوصها، حتى إننا نستمع مرة أخرى إلى رأفت الهجان وليالى الحلمية وأرابيسك.
الدولة الآن تمارس دور المثقف، وأريد أن تقوم دار العلوم على إيقاع الدولة، وتساعد فى بنائها، وتقوم بدورها وترفع العبء عن الدولة، لقد استحدثنا مقرر الثقافة الدستورية والقانونية، وأصبحت الشخصية المصرية مقررًا إجباريًا على الطالب، واستحدثنا مقرر علم اللغة الحاسوبى، ومقرر تذوق الفنون التشكيلية.
■ هل وجدت مقاومة لهذه البرامج؟
- رؤساء الأقسام فى كلية دار العلوم هم من طوروا المقررات الدراسية، بعد عقد ورشة لأساتذة الكلية وعرض اللائحة الجديدة، وكانت الاستجابة رائعة، وكانت العيون تلمع بالغبطة والسعادة، دار العلوم منذ أنشئت وهى أقرب إلى قلب الفنان.
أقدم سينما فى مصر كانت فى دار العلوم، وكان اسمها «دار الخيالة».. العلاقة مع الفن قدر دار العلوم، ولا تجد أستاذًا مهما كان تزمته إلا وكتب شعرًا.
■ ما ملابسات واقعة الطالبة التى قالت لك «لو كان أبوبكر حيًا لقتلك»؟
- حينما كنت أستاذًا، وقبل أن أصبح العميد، كنت أتبنى الصدمة المعرفية لطلابى، لك أن تتخيل أن أدخل المحاضرة الأولى، ومعى أغنية لسميرة سعيد وأنغام وبليغ حمدى، وقبل أن أتكلم، وأحيى الطلاب أسمعهم المقدمة الموسيقية لبليغ حمدى «علمناه الحب على إيدينا».
كنت أتحدث معهم عن البنيوية، وأن بليغ حمدى فى المقدمة الموسيقية فى أغنية عن علاقة بين حبيب وحبيبة، وكلمات الأغنية شبهت هذه العلاقة بالطائر، بدأ بليغ بالدف، الشبيه برفرفة الانطلاق، وفى نهاية المقدمة ينهى بالدف ويحاكى أجنحة الطائر التى تحط على الأرض، وكانت الطالبة معترضة على الدخول بموسيقى، رفعت يدها وتحدثت، وأنا دائمًا أعطى الفرصة للطلاب لنقدى، وأعرض لهم لوحة الجرنيكا لبيكاسو، ونتحدث عن علاقتها بقصيدة لأحمد عبدالمعطى حجازى، ونتأمل حلول بيكاسو للفن التشكيلى، ونشاهد فيلم «زى» فى القاعة، والقاعة تكون ممتلئة، الطلاب يحتاجون للمعرفة والأستاذ الذى يرشدهم، وأتمنى أنجح فى هذه المسألة.
إننا عندما نراجع التاريخ نجد أن مكة كانت فيها دار للغناء، وفى هذه الفترة عُربت الأدوار الفارسية، ما يؤكد أن الحضارة الإسلامية لم تنفصل عن الفن أبدًا.
■ ماذا تتمنى؟
- أحلم لدار العلوم بأن تكون هى المصدرة للفن الذى يحمل رسالة وقيمة.
■ هل خامة الطالب المصرى الآن مطمئنة؟
- أنا من النوع الذى إذا انتدب إلى مهمة فلا بد من أن يشمر لها الساعد.. الطلاب جاءونى وأنا المسئول، ولا بد من أن أبدأ معهم، خاصة مع تخرج دفعات «البابل شيت».. حاولت ترميم المسألة وبدأت برنامجًا تأهيليًا مكثفًا لمدة شهر كامل، مع أساتذة كبار فى التخصصات يدرسون للطلاب خارج المنهج، واستطعت زحزحة نسبة المقالى لـ٣٠٪ للتأكد من أن الطالب كتب بيده فى الامتحان.
ولدى مبادرة طموحة جدًا فقد أسست المجلس الأكاديمى ويضم الأساتذة الكبار، مثل محمد فتوح ومحمد الطويل، من جيل الأساتذة الآباء، وناقشنا فكرة تثبيت مقررات أعظم ما تمخض عنه العقل الدرامى فى التخصصات المختلفة، ولدينا الآن كتاب للدكتور مختار عمر يُدرس فى دار العلوم الآن، إضافة إلى المتطلبات التى أضفناها.