«Fabelmans».. حكاية سبيلبرج الحقيقية وعلاقتها بفيلمه الأخير
عندما كان ستيفن سبيلبرج طفلًا فى أريزونا خلال خمسينيات القرن الماضى، كان يشاهد الأفلام الأمريكية على شاشة تليفزيون «فيلكو» مقاس ٢٠ بوصة بالأبيض والأسود، كان يزحف ويتسلل إلى الشاشة بشكل غريزى، حتى يشعر بأنه يحيط نفسه بالصورة، وتمنى أن يرى هذه الأفلام بالألوان.
تعلم أن يحول اللونين الأبيض والأسود إلى أكثر من لون، حيث تكون الأشياء على طبيعتها، السماء زرقاء والأرض خضراء، وأن يرى الحياة كما هى فى الواقع... من هنا كان انفجار موهبة «سبيلبرج» وسط عائلته.
هو يتذكر هذه القصة، وهو فى غرفة الاجتماعات والمؤتمرات داخل شركة الإنتاج السينمائى الخاصة به قائلًا:
«كانت أمى تدخل علىّ، فترانى أضع على عينى الشرائح (التى تمكنه من رؤية الأشياء على طبيعتها) بجوار التليفزيون فتقول لى: ستحرق عينيك».
والدة «سبيلبرج» مثل كل أمهات الخمسينيات الأخريات اللواتى قلن نفس الشىء، لقد كان مخطئًا فى ذلك، لكننا نعلم ما كانت الأم تفكر فيه، لقد كانت تتساءل.. مَن هذا الطفل؟
إذا كنت قد شاهدت فيلمًا واحدًا فقط لـ«سبيلبرج»، فى الخمسين عامًا الماضية، مثل «Jaws» أو «Schindler›s List» أو «E.T»، ستكون لديك معرفة عن الطريقة التى تشكل بها وجدان هذا الطفل.
وحين نشاهد فيلمه الجديد «Fabelmans» سترى عملًا ذا حيوية مذهلة، مستوحى من قصته، وستعرف المزيد عنه، فأفلامه غطت سيرته، وفيلمه الأخير يبدو وكأنه فيلم متأخر فى تلك المسيرة المهنية، يبدو الفيلم وكأنه حساب حميمى مبهج ومباشر على حد سواء، كأنه بداية جديدة.
ليس من الممكن أن يصنع أى مخرج بلغ من العمر ٧٥ عامًا فيلمًا كهذا. «سبيلبرج» من هؤلاء الشباب الصاخبين الذين أعادوا صنع وتقديم هوليوود فى أوائل السبعينيات، مثل مارتن سكورسيزى وبريان دى بالما وفرانسيس فورد كوبولا وغيرهم من المخرجين، لكن بالنسبة له هو واحد من القلائل الذين ما زالوا يصنعون صورًا حيوية، حياته وسيرته المهنية تعتبر استثنائية وغير اعتيادية.
فى بعض الأحيان كان شباك التذاكر يصيب «سبيلبرج» ببعض خيبات الأمل، لكن من الصعب أن نقول إنه قدم فيلمًا سيئًا، ربما لأنه لا يوجد أحد أو مخرج سينمائى يمكن أن يضاهى تفانيه فى الصناعة، فهو دائمًا يستطيع إيجاد طرق جديدة، وتقديمها ببراعة، لإظهار أشياء نعتقد أننا رأيناها مليون مرة قبل ذلك.
فيلم «Fabelmans» يمكن اعتباره إعادة بحث فى جذور سبيلبرج، الذى كتب الفيلم مع مساعده الذى عمل معه كثيرًا تونى كوشنر، ليكون الفيلم ذا تأثير فورى وقوى أكثر من أى مذكرات يمكن أن تكتب، لذلك استغرق عددًا من السنوات.
تفاصيل الفيلم لا تركز فقط على بدايته كمخرج وتعلقه بالسينما منذ طفولته، بل على السر الذى شاركه مع والدته «ليا» حتى وفاتها فى سن الـ٩٧ فى عام ٢٠١٧.
ففى السادسة عشرة من عمره علم أن أمه تحب صديقًا مقربًا من العائلة، واعتبر «سبيلبرج» هذا الصديق بمثابة عمه، والدة «سبيلبرج» ووالده سينفصلان فى نهاية الأمر، وستتزوج والدته من صديق العائلة هذا.
كل هذا جعل «سبيلبرج» يقترب أكثر ويتعرف على خفايا النفس البشرية، ويقترب منها، من خلال قصة والديه التى وقعت قبل أن يبلغ سن الرشد.
يحدد «كوشنر» الذى عمل مع «سبيلبرج» فى ٤ أفلام خلال ٢٠ عامًا، ما هى مميزات الفيلم الأخير قائلًا: «لا يوجد سياق تاريخى كبير لأحداث الفيلم، ولكنه فيلم صريح جدًا، عار جدًا».
سيخبرك «سبيلبرج» بأنه فى كل فيلم يقدمه لا يقدم إلا جزءًا من حياته وقصته الحقيقية.. يقول: «كلما كنت فى حالة رفض وإنكار، وددت تأمل قصتى الخاصة أكثر من أى وقت مضى، بشكل أكبر أدرك أهمية هذه المحادثة والحوار مع النفس، مرارًا وتكرارًا».
هو يقول إن قرار صنع الفيلم لم يتوقف على أخذ موافقة والديه، بل كان الأمر يتوقف على التغلب على بعض الأشياء بداخله. لقد تحدث إلى والدته حول هذا الموضوع عندما كانت على قيد الحياة، كان غير متأكد من حقيقة رأيها فى عرض وحكى قصة عائلتهم بشكل صريح من خلال فيلم، حينها فضلت والدته استخدام الاستعارة، لكنها أخبرته إذا كان سيصنع شيئًا يجعله يشعر بالفخر، فعليه المضى على الفور لصنعه.
مقر شركة «Amblin» (التى يملكها سبيلبرج) المخبأة بعيدًا فى زاوية مورقة فى وادى سان فرناندو بلوس أنجلوس، وبعد دخولك من الباب ذى المقبض المصنوع من النحاس الأصفر الثقيل، سترى بركة صغيرة بها بعض أسماك «الكوى» اللطيفة السمينة. داخل مكتب «سبيلبرج» هناك ببغاء اسمه «بلانش»، فريق «سبيلبرج» والعاملون معه حذرونى من أن هذا الطائر لا يحب أحدًا ويكره الجميع.
«سبيلبرج» اجتماعى ومرحب دائمًا بضيوفه وزواره، وإن كان متحفظًا بعض الشىء، فهذا لأنه أحد أشهر وأعظم صانعى الأفلام فى العالم، وأكثرهم شهرة، فهو يدرك أنه يحتاج إلى الاحتفاظ ببعض التفاصيل لنفسه.
ومع ذلك فهو متحمس لعرض بعض مجموعته من لوحات الرسام الأمريكى نورمان روكويل، التى تبرز هذا الاهتمام بالتفاصيل، ومن لوحة واحدة موضوعة ليس فقط فى مكتبه ولكن أيضًا فى مكاتب موظفيه، الذى تحدث العديد منهم عن متعة إلقاء نظرة على تلك اللوحة كل يوم، يستطيع أن يحكى لك «سبيلبرج» شعوره تجاه تلك اللوحة.
هى لوحة بها طفل نحيف «هو ابن روكويل نفسه» يقف متجمدًا من القلق عند طرف مغطس.
يقول سبيلبرج: «هذا أنا فى كل مرة أبدأ فيها فيلمًا».
كان «سبيلبرج» بكل المقاييس، مراهقًا لا يحظى بشعبية أو محبة بين زملائه، وكانت نشأته معقدة بسبب حقيقة أن عائلته انتقلت من نيوجيرسى إلى أريزونا، وهو الطفل اليهودى الذى يحمل كاميرا سينمائية، ولا يوجد حوله عدد كبير من الأصدقاء.
الفيلم عبر عن ذلك، عن الطريقة التى حاول بها «سبيلبرج» التعبير عن هويته اليهودية، أمام زملائه، فقط باستخدام كاميرا صنع الأفلام الخاصة به، التى عبر من خلالها عن مشاعره.
أعطاه كل ذلك فهمًا لكيفية استخدام الصور للتلاعب بمشاعر الآخرين، والتأثير عليهم، وهذا ما سيصفه به بعض النقاد، حين يقولون إنه يستطيع التلاعب وبشكل مفرط بالمشاعر الإنسانية.
من مقال الناقدة السينمائية ستيفانى زاكارك فى مجلة «تايم»