كابينة ومايوه وعشة.. معركة مصايف بين بورسعيد ورأس البر
المصيف عند المصريين لم يكن أبدًا مجرد فعل إنسانى ترفيهى مرتبط بفترة معينة خلال العام، فالمعنى أعمق من ذلك بكثير.
المصريون أدركوا من البداية خصوصية موقع بلدهم الذى يطل على بحرين يغطيان جانبين كاملين من مساحته المربعة، بخلاف نهر عظيم يخترق جسده هو بمثابة مصيف عند اللزوم حينما يتعذر الذهاب إلى أحد البحرين.
تكونت عبر الزمن نقاط تجمع فى مدن ساحلية أصبحت ملجأ الهاربين من حر العاصمة والمحرومين من نظرة على البحر من الشباك كنظرائهم من سكان تلك المدن.
فى الغرب صارت هناك المعمورة والمنتزه ثم العجمى فى الإسكندرية.. واستمر زحف الحشود عبر العقود إلى امتداد ساحل الإسكندرية غربًا حيث كان قاحلًا ووعرًا.. نسيت حشود المصطافين، عبر الزمن، كل ما حدث فى تلك الصحراء الشاسعة فى أربعينيات القرن الماضى من معارك طاحنة بين الألمان والإنجليز.. وبدأت تفتح شمسياتها وتمدد على الشاطئ.. حتى ابتلع العمران البشرى الصحراء، ليتبلور بعد ذلك مصطلح الساحل الشمالى.. انقسم مؤخرًا بقدرة قادر إلى أخوين توأم، أحدهما طيب والآخر شرير.. ثم هناك إذا تعمقت أكثر فى الغرب ستخطفك مدينة أخرى آسرة اسمها «مطروح» رأى فيها حسين صدقى ليلى مراد تغنى مطلع الخمسينيات ووقع فى حبها على شاطئ الغرام الذى كان اسم فيلمهما المنتج سنة ١٩٥٠ وصار أيضًا الاسم الرسمى لأهم شاطئ فى مطروح.
أما فى الشرق فكان قبل ذلك بقليل قد برز مصيفان بينهما تنافس خفى طول الوقت خاصة فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين قبل أن تتجه الأنظار إلى الإسكندرية ومطروح.. والمصيفان هما بورسعيد ورأس البر.. الأول ساعدت القناة الجديدة التى حفرت بدم المصريين فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فى نشأته ضمن مدن جديدة زرعت على ضفاف القناة وسميت «ميناء سعيد» نسبة إلى سعيد باشا، والى مصر.. وكان المصيف فى البداية حكرًا على أهل المدينة الجديدة الذين بنوا عليها الكبائن الخشبية قبل أن تنتبه إليه رويدًا رويدًا جحافل الزاحفين من المدن الأخرى.
أما الثانى فقد كانت مجرد أرض فضاء مهملة، رأى أهل دمياط استغلالها وأقاموا عليها خيامًا للتنزه وكانت لا تأتيها إلا عائلات دمياط الكبيرة وتطورت مع الزمن لتصير عششًا وتصبح ملتقى صيفيًا ذا طابع خاص لكبار الفن والأدب والسياسة فى عقود متتالية من الثلاثينيات.
بورسعيد ورأس البر كان لهما مريدون كثر.. أو قُل معسكران، كل معسكر يدافع عن مصيفه المفضل.. يغضب له عندما يرى الإهمال يأكل من رونقه ويفرح له عندما يشاهد خصوصية تفاصيله وتفرد مكوناته عن باقى المصايف.
وكانت لتلك المنافسة بين المصيفين ظلال ظاهرة على مستوى الصحافة الورقية.. ولعل أمير الصحافة المصرية محمد التابعى كان رأس الحربة فى منظومة الدفاع عن مصيف رأس البر الذى كانت عشته فيه ملتقى كبار المجتمع الفنى والصحفى والسياسى فى أشد الحقب المصرية ثراءً على كل المستويات حيث الأربعينيات والخمسينيات.
وعلى الجانب الآخر هناك مدافع شرس عن بورسعيد أو قُل مقاتل، لأنه كان كذلك حرفيًا وهو مصطفى شردى، الصحفى المحارب ابن بورسعيد الذى كان جنديًا ضمن كتائب الدفاع الشعبى ضد العدوان الثلاثى بسلاحه وكاميرته، لدرجة أن صوره كانت من أهم حيثيات عبدالناصر فى تبيان مدى قبح هذا العدوان أمام الأمم المتحدة.
وفيما يلى نقلب معًا فى أوراق صحفية لهذين العملاقين.. التابعى وشردى، فى دفاعهما الشرس عن مصيفيهما المفضلين.. بورسعيد ورأس البر.
١ التابعى يدافع عن رأس البر: أم كلثوم تعالت علينا وأصبحت من زبائن الإسكندرية
ضم عدد مجلة «آخر ساعة» الصادر يوم ١٧ أغسطس سنة ١٩٥٥ ملفًا كبيرًا عن رأس البر، عبارة عن تحقيق كامل شافٍ ووافٍ عن هذا المصيف قامت به المحررة «فتحية بهيج» والمصور «أحمد يوسف».. وكانت مقدمة التحقيق بديعة تستحق أن تُذكر كما كتبت منذ ٦٨ عامًا بالنص: «هذا هو رأس البر، مصيف من الأكواخ، كان يسكنه أصحاب الأكواخ، شهد المجد والنسيان عاش فيه أصحاب الملايين والصعاليك.. جمع الجلاليب والبيجامات.. وضم المايوهات والملايات اللف.. إنه أشبه ببرج بابل، فيه كل شىء وكل صنف.. القديم والجديد، الفنانون وأعضاء هيئة كبار العلماء، القديسات والغوانى، كل هؤلاء يعيشون معًا فى كرنفال عجيب تصنعه الطبيعة واللسان.. إن اللسان فى رأس البر هو كل شىء، لسان يمشى عليه الناس ولسان يتحدث عن أسرار وأحداث هذا المصيف العجيب».
انتهت المقدمة ثم أتى باقى الملف الذى بدأ بتحقيق بعنوان «أول صور لحريم السلطان على البلاج»، تنتقد فيه المجلة بشدة التقليد المتعارف عليه حينها فى المصيف، حيث يحدد ساعة صباحية من الساعة السابعة حتى الثامنة للسيدات فقط تحت حراسة جنود الهجانة، ومبرر محررة التحقيق فى الاعتراض على هذا التقليد تقوله بوضوح: «إننى أعارض القائلين ببقاء هذا النظام، فهذه البدعة كانت مقبولة حين كان رأس البر مصيفًا خاصًا لأعيان دمياط والمنصورة، فكان لا بد من تحديد ميعاد للسيدات لأنهن معروفات للرجال.. إنما الآن وبعد أن أصبح مصيفًا شعبيًا لا يُعرف فيه زيد من عبيد، فلا داعى للتمسك بالميراث القديم»، وتشرح المحررة وجهة نظرها أكثر قائلة: حيث إن السيدات لا يهتممن بأبسط قواعد الذوق فى الملابس إلا إذا كُن فى مجتمع رجالى والنتيجة كما صورها مصور «آخر ساعة» خلسة للشاطئ من داخل العشة قد أظهرت ترديًا فى الذوق وعدم اهتمام بالمظهر العام للشاطئ، حيث إن أغلب السيدات نزلن البحر بملابس النوم فى شكل يدعو للأسى على شاطئ العظماء.
كان لا بد لمحررة «آخر ساعة» القادمة من رأس البر أن تمر على أهم وأشهر عشة فى ذلك المصيف وهى بالطبع عشة محمد التابعى، أمير الصحافة، لتلقى فى حجره شجونها من تردى الوضع داخل المصيف الذى كان دائمًا مثار حسد باقى المصايف.. حيث تقول فتحية: «قصدت عشة الأستاذ محمد التابعى لأسأله عن المعجزة التى مست رأس البر.. تحدث أميرة الصحافة إلى صحفية «آخر ساعة» المجلة التى أسسها قبل هذا التحقيق بـ٢١ عامًا وتحديدًا سنة ١٩٣٤ ورجع بالذاكرة إلى سنوات بعيدة مضت ليتذكر كيف بدأت رأس البر كابنة غير معترف بها من الحكومة.. ولما شبّت على قلعيها سارعت بتبنيها.. بل الإلحاح فى هذا التبنى.. مصيف للخاصة!!».
ثم أردف التابعى شرحًا مطولًا للمحررة عن تطور المصيف حتى وصل إلى اللحظة الراهنة وعدّد، فيما عدّد، كثيرًا من العيوب بعد أن تحول إلى مصيف شعبى، ففقد ميزة هدوئه، خاصة أن نظام العشة نفسها فى رأس البر طبقًا لوصف التابعى يجعلها قريبة من الأرض وأى همس فى الشارع يسمعه الجالس فى عشته كأنه مشترك مع الهامسين، ويقول التابعى إن حل هذا الأمر لن يكون بتغيير نظام العشة، لأن هذا مستحيل ولكن بتغيير أذواق الناس.
ثم نأتى للجزء المهم فى حديث التابعى عندما جاء ذكر أم كلثوم والكبار الذى كان رأس البر مصيفهم المفضل وتخلوا عنه، فيحكى الرجل عن الست، فيما يشبه العتاب، قائلًا بنص ما كُتب: «كانت أم كلثوم من زبائن رأس البر الدائمين.. أما الآن فإنها تعالت على المصيف وأصبحت من زبائن الإسكندرية».
ثم يتحدث الأستاذ التابعى عن أول مرة جاءت فيها أم كلثوم إلى رأس البر بمنطق «إن كنت ناسى أفكرك»، وكان ذلك سنة ١٩٢١ لإحياء حفل يقام فى كازينو على النيل.. كان الإعلان الذى سبق حضورها يعلن بالخط الكبير عن سماع أمير الكمان «سامى الشوا».. وبالخط الصغير.. عن سماع أم كلثوم.. وكان «التخت» كله من لابسى العمائم.
واستمرت أم كلثوم تتردد على رأس البر حتى سنة ١٩٤٦، ولما مرضت بعينيها.. اعتقدت أن رمل رأس البر هو السبب فقررت مقاطعته إلى الأبد.
ومن الزبائن الذين تخلوا عن رأس البر.. مصطفى وعلى أمين.. ولكن التابعى يؤكد أنهما لم يستبدلا به مصيفًا آخر.. إذ إنهما أصبحا من كثرة العمل لا يفرقان بين الصيف والشتاء إلا إذا نظرا فى ترمومتر الجو.
كما أن يوسف وهبى كان يحضر بفرقته عندما كان تعداد رأس البر ألفين.. ولما أصبح ستين ألفًا فضل عليه الإسكندرية.
وانتهى كلام التابعى لصحفية «آخر ساعة»، إلا أن حكايات عشته لم تنتهِ، وظلت تُحكى على لسان الجميع، لأن تلك العشة شهدت تجمعات لأشخاص لم يكن من الممكن أن يتجمعوا فى مكان آخر. لك أنت تتخيل أن هذه العشة الصغيرة أحيانًا كانت تضم الأعضاء الدائمين كما يسميهم التابعى وهم الذين يقيمون فى العشة دائمًا، ومنهم سليمان نجيب وتوفيق الحكيم وكامل الشناوى وأحمد الصاوى محمد وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالوهاب ومصطفى أمين.. بالإضافة إلى أعضاء الشرف طبقًا لوصف التابعى أيضًا وهم الذين يفدون إلى العشة كضيوف لتمضية السهرات مثل أم كلثوم ويوسف وهبى وروز اليوسف ونجيب الريحانى واستيفان روستى والدكتور سعيد عبده وعلى يوسف الشريعى وأحمد الألفى عطية، وآخرين.
٢ شردى يحذر أهله البورسعيدية: نحن نهمل المصطافين ورأس البر تخطفهم
حوت مجلة «الجيل» الصادرة يوم ١٩ أغسطس ١٩٦٣ تحقيقًا جميلًا عن مصيف آخر وهو بورسعيد أجراه مصطفى شردى، الصحفى الشاب وقتها، الذى لم تكن سنه تجاوزت عند نشر التحقيق ٢٨ عامًا، لكن شردى الشاب البورسعيدى لم يكن مجرد صحفى بالرغم من حداثة سنه، حيث كانت إنجازاته الصحفية حينها ملء السمع والبصر، حيث كان هو العين الأمينة التى فضحت فظائع العدوان الثلاثى عندما كان الشاب البورسعيدى يحمل البندقية بيد ويخفى الكاميرا فى ملابسه ليصور بها ويكشف المستور ليأخد الصور مصطفى أمين إلى جمال عبدالناصر شخصيًا لتكون دليلًا دامغًا يستخدمه أمام المحافل الدولية لفضح العدوان الآثم.
إذن عندما يكتب مصطفى شردى بتلك الحرقة عن انهيار مصيف بورسعيد بلده فلا عجب من اهتمام مجلة «الجيل» أن يكون التحقيق مفرودًا على ٣ صفحات بعنوان دال «فى بورسعيد نحن نهمل المصطافين» وتحت العنوان بالبنط العريض «تحقيق يكتبه مصطفى شردى».
«شردى» شرح مشكلات مصيف بورسعيد بمشرط الجراح ابن البلد الذى يخاف عليها، حيث يستهل تحقيقه بما يؤكد ذلك الحب قائلًا بالنص: «لأن بورسعيد بلدى ولأننى أحبها ومتعصب لها وأرجو لها كل خير أكتب هذا التحقيق الصحفى بصراحة ودون مجاملة ومن غير زعل».
ثم يبدأ شردى تحقيقه فى سلاسة وأسلوب خفيف، لكن الملاحظ تركيزه على استغلال المصيف القريب رأس البر لتقصير المسئولين فى بورسعيد، ويسوق مثالًا وهو رفض اللجنة السياحية المكلفة بإدارة مصيف بورسعيد أن تمنح الفرق المسرحية الكبرى إعانة ١٠٠ جنيه فى الليلة حتى تعرض مسرحياتها على مسرح المحافظة الصيفى، وقالت اللجنة، على حد قول شردى: «إنها فى الواقع غير محتاجة هذه الفرق.. وأعلنت عن أن الفرق التى تريد أن تأتى من غير إعانة أهلًا وسهلًا.. أما التى تريد إعانة.. فلا داعى لحضورها».
ويكمل شردى بسخرية مريرة: «وطبعًا هربت الفرق من بورسعيد إلى رأس البر.. وتركت بورسعيد تنتظر العصافير التى على الشجر.. ولكن العصافير طارت أو نامت.. أو خطفها آخرون.. فنامت بورسعيد دون عشاء».
ثم يثنى شردى على محافظ دمياط بالاسم فيقول: «محمود طلعت، محافظ دمياط، استطاع أن يخطف السيرك الهندى لرأس البر خلال أغسطس وبورسعيد نائمة فى العسل.. ويبدو أن مشروع المدينة السياحية ستخطفه محافظة أخرى.. ما لم تنتبه محافظة بورسعيد».
ويكمل شردى تشريح الحالة البورسعيدية المتردية فى الصيف، حيث يستعير جملة قالها له صديق مصور إيطالى: «نحن فى إيطاليا يتدفق علينا السياح من كل مكان، لأننا نحسن استخدام شيئين.. الفوطة والجيتار.. الفوطة نحوّل بها أى مكان سياحى إلى مكان نظيف يمكن الاستمتاع بالجلوس فيه، والجيتار نعزف به للسائحين عزفًا رقيقًا يضفى على إيطاليا كلها جوًا من السحر».
ثم يقول شردى: «إننا بالفعل لا نحسن استخدام الفوطة والجيتار»، ويدلل على ذلك بموقف يحكيه عندما ذهب مع زوجته ليأكلا فطيرًا من محل جديد داخل مصيف بورسعيد، لكن النظافة لم تكن تسر عدوًا ولا حبيبًا.. ثم يلمح شردى إلى المصيف الجار المنافس مرة أخرى متعجبًا: «كان الذى فى الصينية أى شىء إلا أن يكون فطيرًا وأحسست بمغص مفاجئ وأكلت ربع الفطيرة وأكل الذباب الباقى.. وفكرت لا شك أن الرجل صاحب المحل يستعمل الدقيق نفسه والسكر والقشدة والبندق والجوز.. يعنى كل الخامات هى هى التى يصنع منها فطير رأس البر الممتاز مثلًا.. ما السر إذن؟».
ينهى مصطفى شردى مقاله التشريحى لعله لم يكن يدرى حينها أن الأمور ستؤول إلى مصايف أخرى غير بورسعيد ورأس البر وسيكتسب المصيفان أهميتهما الكبرى فى استدعاء النوستالجيا والحنين لأيام ولت فقط.. لأن أغلب الناس موزعون بين ساحل طيب وآخر شرير، وما تبقى سيكون اتجاهه غالبًا شرقًا، حيث شرم الشيخ والغردقة والعين السخنة، ولا عزاء لمصايف الزمن الجميل الذى ذهب وأخذ معه أشياء كثيرة لن تُشرى فى أى مصيف طيبًا كان أو شريرًا.