”أثر أم كلثوم فى المسرح المصرى”.. خناقة عبدالوهاب ومنيرة المهدية تفتح باب المسرح أمام كوكب الشرق
تناولت الأجزاء السابقة من بحث الدكتور سيد إسماعيل أثر أم كلثوم فى المسرح المصرى توثيقًا لمشاركتها فى الغناء فى فواصل مسرحيات مع فرق على الكسار ونجيب الريحانى ويوسف وهبى.. كما وثق ردود أفعال الصحافة حينها على مشاركة أم كلثوم على هذا النحو.. وفى الجزء الأخير من البحث يواصل د. سيد إسماعيل توثيق مشاركة أم كلثوم مع فرقة جورج أبيض، ويجيب عن السؤال الذى شغلنا خلال الفترة الماضية: هل شاركت أم كلثوم بالتمثيل على خشبة المسرح؟
فرقة جورج أبيض
فى عام ١٩٢٥ تعرض جورج أبيض لحملة نقدية ضد سوء اختياراته لموضوعات مسرحياته، ولم يجد معينًا سوى الاستعانة بأم كلثوم، وكانت المنفعة مزدوجة! فجورج أبيض- عن طريق أم كلثوم- سيضمن الإقبال الجماهيرى، وفى الوقت نفسه ستقف أم كلثوم وتغنى على خشبة «دار الأوبرا الملكية» لأول مرة، ففى أواخر أبريل نشرت جريدة «السياسة» إعلانًا عنوانه «دار الأوبرا الملكية.. فرقة جورج أبيض»: هذا نصه: «تُمثل لأول مرة ابتداء من يوم الجمعة أول مايو سنة ١٩٢٥ والأيام التالية الساعة ٩ مساء، الرواية الجديدة (ميشيل أستروجوف). مأساة روسية ذات ٦ مناظر لجول فرن، تعريب المرحوم عبدالحليم دلاور. الرواية صفحة من الحياة الروسية الصميمة، وقعت حوادثها فى عهد القيصر السابق إبان ثورة التتار فى سيبيريا، بطلها ميشيل أستروجوف جندى روسى باسل، خير مثال للوطنية الصادقة، وقّف حياته فى سبيل الواجب، شعاره الله والوطن والعرش. ظهور (الآنسة أم كلثوم) لأول مرة على مسرح الأوبرا فى حفلات الأستاذ جورج أبيض».
هذا الحدث انقسم أمامه النقاد بين قادح ومادح! ومن أهم المادحين محمد التابعى، الذى كان يوقع باسم «حندس» على مقالاته فى جريدة «الأهرام»، حيث نشر فى منتصف مايو مقالة تحليلية كبيرة عن العرض، يهمنا منها هذا الجزء: «.. أريد أن أتكلم عن مسألة أخرى طال حولها الأخذ والرد، وانقسمت فيها الآراء بين المتطرفين والمتشدقين!!.. حضراتهم يلومون الأستاذ أبيض لأنه استعان بالآنسة أم كلثوم على اجتذاب الجمهور إليه، ولست أرى فى هذا ما يصح أن يؤخذ الرجل عليه، وأى حرج فى أن يستعين فنان بفنانة؟ وهل هناك فرق كبير بين فن التمثيل وفن الغناء؟ وهناك من يعجب أيضًا كيف سُمح للآنسة أم كلثوم بأن تغنى فوق مسرح الأوبرا الملكية؟ وأنا أعجب لهذا النفر، وأرى هناك حركة مقصودة تحركها يد ناعمة من وراء الستار؟ لمَ لا تغنى أم كلثوم فوق مسرح الأوبرا وقد غنت من قبلها توحيدة ومنيرة».
فرقة الريحانى
آخر فرقة استعانت بأم كلثوم، وفقًا لما بين أيدينا من مقالات وإعلانات، كانت فرقة «نجيب الريحانى»، وكانت الاستعانة محدودة وفى الأعياد فقط، ففى عام ١٩٢٧ أعلنت جريدة «الأهرام» عن برنامج العيد، وفيه حفلات غنائية لأم كلثوم، ومن بعدها عرض مسرحية «الحظوظ» لفرقة الريحانى، وتكرر الأمر عام ١٩٢٩ فى إعلان جريدة البلاغ لمسرحية «نجمة الصبح». ولكن فى أوائل فبراير ١٩٣٢ نشرت جريدة «أبوالهول» إعلانًا ساوى بين الريحانى وأم كلثوم، لدرجة أن مَن يشاهده يُصاب بالحيرة: هل هو إعلان للريحانى مستغلًا شهرة أم كلثوم، أم هو إعلان لأم كلثوم مستغلة شهرة الريحانى؟ وهذا نصه: «احتفالًا بثانى يوم عيد الفطر المبارك، حفلتان فقط بتياترو برنتانيا نهارية وليلية، الموسيقارة أم كلثوم ونجيب الريحانى كشكش بك، ثانى يوم العيد الثلاثاء ٩ فبراير الحفلة الأولى نهارية الساعة ٦ ونصف مساء، والحفلة الثانية ليلية الساعة ٩ والنصف مساء. وتطربكم فى الحفلتين بصوتها الساحر ملكة الإنشاد والموسيقارة المحبوبة الآنسة أم كلثوم، بقصائد وطقاطيق وأدوار جديدة لأول مرة لم يسبق سماعها على تختها المشهور، وعلاوة على الطرب يُمثل الأستاذ نجيب الريحانى كشكش بك مع فرقته الرواية المحبوبة (حاجة حلوة)، كوميدى فودفيل ذات ثلاثة فصول مضحكة بقلم الأستاذين نجيب الريحانى وبديع خيرى، ثلاثون راقصة باريسية تظهر على المسرح المصرى. يمثل كشكش بك، الأستاذ نجيب الريحانى، والأسعار مخفضة كالآتى: ١٠٠ قرش صاغ بنوار ولوج، ٢٠ قرشًا ممتاز، ١٥ قرشًا مخصوص، ١٠ قروش فوتيل، ٧ قروش بلكون، ٥ قروش عمومى».
أم كلثوم ممثلة مسرحية
تعاملت أم كلثوم، طوال عدة سنوات، مع الفرق المسرحية، وعاشت أجواءها وبين كواليسها، وشاهدت تمثيلها، وشاركت بالغناء قبل عروضها وبعدها وبين مناظرها وأحداثها، هذه المعايشة، بلا شك، تأثرت بها أم كلثوم، ومن المؤكد أن كثيرين حاولوا إقناعها بالوقوف على خشبة المسرح بوصفها «ممثلة»، وتكوين فرقة مسرحية غنائية! وهذا الأمر أُثير لأول مرة عام ١٩٢٧، عندما دب الخلاف بين منيرة المهدية والمطرب الشاب محمد عبدالوهاب بسبب مسرحية «كليوباترا ومارك أنطوان»، التى فشلت فيها منيرة عندما قامت بدور كليوباترا، مقابل نجاح محمد عبدالوهاب، ملحن المسرحية، فى دور مارك أنطوان، فاتهمته منيرة بأنه تعمد وضع ألحان غير مناسبة لها بقصد إفشالها، مقابل ألحانه الناجحة لشخصية مارك أنطوان، وانتهى الأمر بأن طردت منيرة «عبدالوهاب»، وجاءت بالمطربة فتحية أحمد لتقوم بدور كليوباترا، وتقوم منيرة بدور مارك أنطوان، لتغنى ألحانه الناجحة.
وحول هذا الأمر، نشرت مجلة «النهضة النسائية» فى يونيو ١٩٢٧ كلمة بعنوان «الآنسة أم كلثوم والمسرح»، جاء فيها: «يسرنا أن نذكر ما اتصل بنا عن قرب اعتلاء الآنسة أم كلثوم خشبة المسرح للتمثيل الغنائى، وما نشك فى أنها قادرة على ذلك. فإن طريقة إلقائها تمثيلية النزعة، وهى متعلمة تعليمًا أدبيًا، كفيلًا بنجاحها فى استيعاب أدوارها الغنائية وتقدير روحها حق التقدير. ويقول بعض أصدقائها إن الخلاف الذى وقع بين الأستاذ عبدالوهاب والسيدة منيرة هو من الأسباب التى جددت فكرة اعتلائها المسرح لتمثيل الأوبرا، بالاشتراك مع الأستاذ عبدالوهاب فى فرقة خاصة بهما، مستعينين بسعادة شوقى بك الذى يعطف على الأستاذ عبدالوهاب كثيرًا، وينظم الآن من أجله قصة (كليوباترا). فإذا تحقق هذا الغرض فسيشاهد محبو التمثيل فى مصر ثلاث روايات غنائية عن كليوباترا تمثلها فرق مختلفة بمصر، وعلى أى حال فيسرنا غاية السرور أن تنضم الآنسة أم كلثوم إلى التمثيل الغنائى، وإذا تحقق ذلك فما علينا إلا أن نشكر ظروف الخلاف بين السيدة منيرة والأستاذ عبدالوهاب إذا كانت نتيجتها مثل هذا الكسب للمسرح».
بعد شهرين من هذا الخبر، هاجم الفكرة الناقد لطفى عبده، ناقد مجلة «الرقيب»، قائلًا: «علمنا أن أمير الشعراء قد أخذ فى تأليف رواية كليوباترا ومارك أنطوان فى شكل أوبرا.. وقد سمعنا فى هذه الأيام أن الأستاذ محمد عبدالوهاب سيقوم بدور مارك أنطوان. أما دور كليوباترا فقد اتفق نهائيًا على أن تقوم به الآنسة أم كلثوم. وخشية سقوط رواية لأمير الشعراء، وخدمة للفن ننصح عبدالوهاب بل ونرجوه، إذ هو المنوط بتلحين هذه الرواية وتوزيع أدوارها وإخراجها، ألا يعهد لأم كلثوم بهذا». وهكذا أحبطت فكرة أن تشارك أم كلثوم كممثلة مسرح، واقتصرت مشاركتها على ما أدته من أدوار وأغانٍ فى فواصل مسرحيات أشهر الفرق المسرحية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى.