عصر «البوك تيوبر» و«البوك توكر».. هل ترسم مواقع التواصل الاجتماعى خريطة «البيست سيلر»؟
فى عام ٢٠٠٧، تحدّث الناقد البريطانى رونان ماكدونالد فى كتابه: «موت الناقد» عن تراجع النقد الأكاديمى الرصين بل والنقد الصحفى، فى مقابل صعود نفوذ النقد الجماهيرى، الذى وجد له نافذة واسعة أتاحتها شبكة الإنترنت الواسعة، واصفًا ذلك بأنه «نهاية للنقد الأكاديمى» أو بالأحرى إعلان لوفاته.
أثبتت السنوات التالية منذ ذلك الحين أن الكاتب لم يكن مُغاليًا حين رصد العلاقة الطردية ما بين فرص لا نهائية تتيحها شبكة الإنترنت لتقديم النقد والمراجعات وانكماش النقد الأكاديمى وتراجعه، بل إن العامين الماضيين على وجه التحديد قد أثبتا أن ما طرحه الكاتب من أفكار فى هذا الكتاب لم يكن توصيفًا لواقع بقدر ما كان استشرافًا لاستمرار هذا الواقع وتضخمه فى المستقبل.
فورة التقييم الحر
لم يعد الأمر مقتصرًا على المدونات أو المواقع التى تتيح لأى شخص أن يكتب عن آرائه فيما يخص الكتب والروايات، بل إن هناك «فورة» فى التقييم الحر للكتب قد حدثت فى السنوات الأخيرة على مستوى العالم، عبر الكثير من الوسائط. هناك مثلًا «نوادى الكتب» على مواقع التواصل الاجتماعى، التى باتت أشبه بنوادى الكتاب الواقعية وربما تفوقت عليها، و«البوك تيوب» الذى يتيح للمشاهدين نبذة عن مضمون الكتاب وأهم أفكاره ويقدم تقييمًا له فيما لا يتجاوز دقائق معدودة، والأحدث هو «البوك توك»، الذى وجد مكانًا له فى الدول العربية مؤخرًا، ليُشارك بكثافة ملحوظة فى رسم خريطة الكتب الرائجة.
خريطة الكتب الرائجة
بعض المؤلفين ودور النشر انتبهوا مؤخرًا لذلك الأثر الجلى، فصاروا يستعينون بـ«البوك تيوبرز» و«البوك توكرز» للترويج لأعمالهم.
وفى دراسة نُشرت حديثًا بعنوان: «البوك توك وتأثيره على الدعاية للكتب فى مصر»، رصدت فاطمة خميس، أستاذ مساعد فى كلية الآداب جامعة المنوفية، تأثير «البوك توك»، الذى برز عربيًا منذ ٣ سنوات تقريبًا، على صناعة الكتب على مدار العامين الماضيين. وأوضحت الدراسة أن العديد من مكتبات البيع أنشأت حسابات لها على «البوك توك» للدعاية والترويج لكتبها، وكان نتيجة ذلك ازدياد طلبات التجارة الإلكترونية بعد الإعلان عنها على «البوك توك». كما تواصل الناشرون وبعض المؤلفين مع «البوك توكرز»، الذين لم تتجاوز أعمار الأغلبية منهم الثلاثين، وأرسلوا لهم كُتبًا مجانية ليقدموا محتوى إيجابيًا عنها. فضلًا عن ذلك، رصدت الدراسة أن «البوك توك» قد أدى إلى رواج أعمال بعينها، إذ تصدرت الروايات بأنواعها المختلفة وعلى رأسها أعمال ريم بسيونى، وروايات أحمد خالد توفيق، وجبران خليل جبران، وبعض أعمال محمد عصمت الذى أبانت الدراسة أنه كان من ضمن المؤلفين المهتمين بالتواصل مع «البوك تيوبرز» لترويج رواياته.
تعزيز مظاهر الخفة وسيادة الاستعراض
فى كتابه الرائد لم يتوان ماكدونالد عن إبراز مثالب الفضاءات المفتوحة للنقد، التى تتضح معالمها اليوم بشكل أكثر وضوحًا، فحسب رأيه، قاد التوسع فى النقاش العام إلى تعزيز مظاهر الخفة، كما أن افتقاد السلطة النقدية قلّص من فعالية القارئ وقدرته على الاختيار ليصبح فريسة فى أيدى جهات احتكارية تعمل على توجيهه نحو خيارات أقل، غايتها الأساسية تحقيق أرباح نهائية صافية من بيع الكتب.
اليوم، تضاف إلى قائمة السلبيات عناصر جديدة، ففى عالم تسوده وسائل التواصل الاجتماعى حيث «الاستعراض» هو المبدأ الحاكم، تتحول القراءة إلى فعل من أفعال الاستعراض فى مقابل توارى حقيقة علاقة القارئ بالكتاب وبالقراءة بشكل عام.
تسلط الكاتبة أماندا جوه فى مقال على موقع «taler» الآسيوى الضوء على ذلك فى حديثها عن «البوك توك» باعتباره ظاهرة ثقافية يدفع بعناوين معينة إلى شعبية غير مسبوقة، ولكنه فى المقابل يعزز من الميل نحو التباهى بالكتب والمكتبات المنزلية المكدسة بالكتب غير المقروءة قائلة: «لم يسعنى إلا الشعور بأن المجتمع قد أعطى الأولوية لظهورك كقارئ بدلًا من الاستمتاع بالقراءة كنشاط بحد ذاته».
علاوة على سيادة ثقافة «الاستعراض»، فإن «البوك توك» باعتباره الأحدث ظهورًا فى عالم «ثقافة التواصل الاجتماعى» صار له تأثير واضح وملموس على الدعاية للكتب والترويج لها، وهو ما يجعل أعمالًا بعينها تحتل موقع الصدارة، وتظل فى مركز الاهتمام، بينما تتوارى أعمال أخرى قد تكون أكثر أهمية إلى الظل.
بات تأثير الفضاءات الافتراضية على صناعة الكتاب، ومن ثم الثقافة ظاهرة عالمية، فإن اختلفت تفاصيلها من بلد إلى آخر، فإن المآلات تظل متشابهة وتستحق الدراسة والتأمل فى جوانبها المختلفة. ومن ثم توجهت «الدستور» بالسؤال إلى عدد من المتخصصين فى الثقافة والعالم الرقمى لفحصها.
ضرورة لمواجهة تراجع القراءة
لم ير هنرى جنكيز، عالم الإعلام الأمريكى، رئيس قسم الاتصال والصحافة والفنون السينمائية والتعليم فى جامعة جنوب كاليفورنيا، فى حديثه مع «الدستور»، أى أبعاد سلبيّة فيما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعى من مناقشات حول الكتب، معتبرًا أنها ظاهرة إيجابية بشكل كامل. وقال «جنكيز»: «أى شىء يجعل الناس يقرأون الكتب ويناقشونها يعد ذا قيمة فى هذه المرحلة، نظرًا لتراجع القراءة فى السنوات الأخيرة. أى شىء يساعد الناس فى التعرف على الكتب التى قد يحبونها وتلك التى لن يستمتعوا بها، يبدو ذا قيمة للقراء والكتاب على حد سواء»، مضيفًا: «ببساطة أرفض فكرة أن هناك بعض المعايير الثابتة حول ما يجعل الكتاب جيدًا، وبدلًا من ذلك أعتقد أن المعايير ظرفية ومتبدلة».
غرفة صدى لترسيخ معتقدات سابقة
ثمة جوانب إيجابية أخرى لـ«ثقافة مواقع التواصل الاجتماعى» رصدها نيك ماتر، أستاذ التسويق الرقمى، فى عدد من الجامعات الأمريكية، فى حديثه مع «الدستور»، إذ أوضح أن وسائل التواصل الاجتماعى وفرت وسيلة لتعزيز الوعى بالقراءة وبعض الكتب التى ربما قد تسقط من الذاكرة دون حديث عنها.
كما أنها قد جعلت من القراءة نشاطًا اجتماعيًا، بعد أن صار بإمكان الناس قراءة الكتب ومشاركة أفكارهم وتقييماتهم مع الملايين الآخرين عبر الإنترنت، وهو أمر لم يكن موجودًا قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعى.
فى مقابل ذلك، فإن واحدًا من المثالب الكبرى التى عاينها «ماتر» فى هذا الصدد، هو تحول وسائل التواصل الاجتماعى لحد كبير إلى «غرفة صدى» للمستخدمين الذين يبحثون عن الآراء التى تعيد تأكيد معتقداتهم السابقة. ومن ثم، يحدث إجماع على تقييم الكتب بطريقة غير متوقعة، ويتجه كثيرون إلى التفاعل فقط مع المحتوى الذى يؤكد المعتقدات التى يؤمنون بها بالفعل.
تحوُّل فى شكل السلطة
وسلط وليام تشارلز يوريشيو، عالم الإعلام الأمريكى، أستاذ دراسات الوسائط المقارنة فى معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا، الضوء على الجوانب الإيجابية، وتلك السلبية التى تتحقق نتيجة لما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعى من تحول فى السلطة، من السلطة المركزية إلى السلطة اللامركزية. وقال «يوريشيو» فى تصريحاته لـ«الدستور»، إن ما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعى من مراجعات قد تكون أفضل بكثير من تلك التى يقدمها متخصصون، لكنها أيضًا قد تكون أسوأ بكثير وأكثر تحيزًا، وهذه هى المشكلة الكبرى مع الوسائط التى تفتقر إلى حراس البوابة؛ فالجودة غير موثوقة ولا يمكن التنبؤ بها، كما أنه من السهل التلاعب بها وهو ما اكتشفه المسوقون والمستفيدون بشكل عام. ورأى الخبير الإعلامى أن تلك الوسائط الجديدة ليست مفتوحة كما تبدو، فهى فى الواقع أنظمة معقدة من الخوارزميات المصممة للقيام بالعديد من المهام، بما فى ذلك جمع البيانات عن المستخدم، وتصفية ما يراه، واستهداف الإعلانات وأنواع معينة من الرسائل، مضيفًا: «إنهم يشكلون واقعنا، وهذا يشمل مراجعات الكتب التى يشجعوننا على رؤيتها، وهى أحد أسباب الاستقطاب المتزايد للمعتقدات فى جميع أنحاء العالم». وواصل: «تتمتع الوسائط القديمة بالموثوقية ومراقبة الجودة والسلطة، لكنها محدودة للغاية. على النقيض من ذلك، فإن الوسائط الحديثة تبدو أنها تسمح بأى شىء إلا أنها أقل موثوقية، لكن المفاضلة فى أن العديد من أشكال الخبرة يمكنها أن تجد مكانًا، وأن تتم مراجعة مجموعة أكبر بكثير من المنتجات الثقافية، ومن ثم فإن التحدى هو أن يميز المستخدمون بين الخبرة والتلاعب».