أمل دنقل.. شاعر الحداثة العربية وقدرته على تمثيل الإنسان العربي المعاصر
أمل دنقل، والذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم من العام 1983، أحد أضلاع مثلث الإبداع الجنوبي مع يحيي الطاهر عبد الله وعبد الرحمن الأبنودي.
ورغم ما كان ما يبدو عليه دنقل من عدوانية وعنف وتقلب، كان في العمق إنسان شديد التواصل، والحميمية، والأهم تلك القدرة النادرة على النفاذ إلى ما وراء الأشياء والظواهر، وهي قدرة يصعب تحليلها إلى عناصرها الأولى، فهي وعي كلي شامل يعتمد على ذكاء فطري صقلته خبرة طويلة، وحدس يكاد يعود إلى عهود المصريين القدماء، ومعارف متنوعة حتى وإن كان ينقصها التكامل في إطار فلسفي واضح ومحدد.
ويوضح الناقد دكتور سيد البحراوي في كتاب“ صناع الثقافة الحديثة في مصر”، هذه القدرة على النفاذ إلى الجوهر، هي الأرضية التي انطلق فيها شعر أمل دنقل، وإن لم تكن هي التي صنعته، فلو اكتفي أمل برصد الجوهر (بالمعني الفلسفي) لا ينتهي به الطريق إلى الحكمة، التي كان في نهاية المطاف نقيضا لها.
ويستدرك“ البحراوي”: ولكن عبقرية أمل دنقل الشعرية جعلته قادرا على أن يجعل هذا الجوهر هو نهاية المطاف في العملية الشعرية، وأن يجعل الوصول إلى هذا الجوهر مهمة المتلقي الأخيرة، تلك التي تصله عبر تجسيد منحنيات التجربة بمشارعرها وصراعاتها وتطوراتها الدرامية.
قدرة أمل دنقل على تمثيل الإنسان العربي المعاصر
ويلفت دكتور سيد البحراوي في كتابه“ صناع الثقافة الحديثة في مصر ”إلي أن: على هذا النحو تعاونت الطاقات الإدراكية والتشكيلية وتمازجت لتعطي شعر أمل دنقل القدرة على تمثيل الإنسان العربي المعاصر، أي علي تجسيد احتياجاته الجمالية والروحية في أزمته الراهنة التي تمثل نمطا خاصا من التطور في العصر الحديث، بحيث جاز لنا أن نسمي أمل دنقل شاعر الحداثة العربية، ومضيفا مع زملائه محمود درويش وسعدي يوسف الطريق المتميز للشعر العربي المعاصر الذي بدأه بدر شاكر السياب.
أمل دنقل هو آخر الشاعر الجاهليون
ويمضي الناقد دكتور سيد البحراوي في عرض تجربة أمل دنقل الشعرية مشيرًا إلى: ولا يخفي علي متابع حركة الشعر العربي المعاصر، أن يدرك أن صراعًا واضحًا قد بدأ يتبلور في الخمسينيات من القرن العشرين بين تيارين تقارب أحياناً وتباعدًا في كثير من الأحيان، أقصد تيار الشعر الذي سمي آنذاك بالملتزم وتيار مجلة “شعر” الذي اتهم آنذاك بالتعامل مع الجهات الأجنبية والذي أنتمي إليه أدونيس وخليل حاوي وآخرون، وقد وصل هذا الصراع إلي مداه الفج حينما أعلن بعض شعراء السبعينيات في مصر ونقادهم أن أمل دنقل هو آخر الشاعر الجاهليون، معلنين بذلك انضوائهم في إطار التيار الثاني الذي كان وظل من وجهة نظري منحي صغيرًا في تيار الشعر العربي الممتد والذي يمثله التيار الأول، وهذا ما يشهد به حاضرنا الراهن.
ويشدد “البحراوي” على: “فبعد 15 عامًا من رحيل أمل دنقل، بدا أن الساحة قد باتت خالية لشعراء التجربة الذهنية المجردة المغرقة في الانطواء علي ذاتها والعازفة عن التواصل مع العوام واعتبار ذلك أحد أمجادها. نري أجيالا أحدث من شالعراء سواء في الفصحى أو العامية قد أخذت تراجع بقوة هذه التجربة وترفضها، وتعود إلي التواصل مع تجربة التيار الأساسي كما أسميته في الشعر العربي المعاصر وفي القلب منه تجربة أمل دنقل”.